الفصل الأول – “مجيء الشريف”
قال مولاي الصادق في تطوان: ” هل أنت ذاهبة لرؤية ابن عمي الريسوني -لتكتبي عنه؟” “لأي سبب؟” بين إفريقيا وأوروبا حاجز أعلى من هذه الجبال، لا يمكنك عبوره”.
كنت قد ذهبت لرؤية الشريف الشّيخ بشأن رحلتي إلى وزان، لأنه كان يعمل كنائب لقريبه الشهير في تطوان. كان منزله أكثر جاذبية مع فنائه الصغير المغطى بالفسيفساء والمحاط بالأقواس المغربية البيضاء، التي من ورائها تسترق الإماء النظر، بفساتينهن القرمزية اللامعة التي تظهر من خلال معاطف الشاش الأبيض الطويلة المتناسقة مع عمائمهن، وأحزمتهن الحريرية متعدّدة الألوان التي يشددن بها على خصورهن. كان مولاي الصادق نحيفا وقوي البنية، يبلغ من العمر نحو الستين عاما، أصلع، ولحيته رمادية، وذو مظهر غير مرتّب. ولأنه “عالم” فإنه يرى أن التعلم أفضل بكثير من الاهتمام بالشكل. كان على استعداد للحديث لساعات عن مغامرات “الشريف”،[1] الذي كان نقيضه، ذلك أنه (مولاي الصادق) كان يبدو ذكيا وودودا، وكانت يداه تعبران أكثر من شفتيه. عندما يكون متحمسًا، يخلع عمامته ويضرب بكفيه على الأرض، أو يلقي بهما مفتوحتين فوق رأسه. وجدته جالسًا على الأرض، محاطًا بمجلدات ضخمة، وأخرى كثيرة متراكمة خلفه، كان عليه أن يحرك العديد منها قبل أن يكون هناك متّسع لي للجلوس، وبعدها بدأ يتحدث عن رحلتي، دافعا نظاراته إلى مقدمة أنفه الطويل.
قال: “إن زيارتك ستكون محل ترحيب من طرف الشريف”، ولكنه طريق طويل ومن واجبي أن آتي معك لكي تسافري بكل احترام”. وهكذا تم الترتيب لذلك، وذهب ليتّصل بسكرتير الريسوني المتواجد بقرية تازروت.
ألقت سيارة “الهسبانو-سويسا” “Hispano-suiza” الرائعة بنفسها على الطريق كما لو أنها ستلتهم الشريط الأبيض المكسو بالغبار الذي فر من أمامها. اختفت أسوار تطوان القديمة. وبعيدًا على جانب التل، ظهرت بقعة خضراء تميز منطقة سامسا، حيث تحكي الأسطورة عن ملكة برتغالية كانت سجينة هناك في متاهة تحت الأرض. كان الندى لا يزال على قصب السكر والضباب يكسو النهر. كان الفلاحون يقودون قطعانهم إلى السوق؛ ركب الرجال على الحمير، مثبتين أياديهم بالمقابض، وكانت النساء بأحيكتهن المرفوعة فوق ركبهن لتظهر سراويلا من الجلد السميك، تخفين وجوههن بقبعاتهن التي تضاهي حجم المظلات وتمشين بتثاقل خلف أسيادهن، حاملات حزما ضخمة من الحطب أو أكياس حبوب. وبدا في الأفق شخص غير واضح المعالم ملتحف برداء، بندقيته متدلية على ظهره، وكأنه يمثل حالة المغرب في تلك الفترة – بلد متواري، غامض وفي حالة تأهب.
ارتفع علو الطريق شيئا فشيئا، إنه إنجاز هندسي لا يدركه العقل، ووتيرة السائق لم تخف أبدًا ولو للحظة. أخذتنا السيارة الإسبانية إلى الأرض التي خاضت فيها إسبانيا والريسوني معركة مذهلة، عابرة المنحدرات كما لو كانت عجلاتها تدور على حافة الأبدية، مارة بمنعطفات وطرق ملتوية، مثل التي ترى في الكوابيس، حيث انزلق المسار مثل ثعبان البحر من تحتنا. ارتفعت الجبال يمينا وشمالا، بمنحدراتها العميقة كثيفة الشجيرات والعشب، وقممها القاحلة. كانت مراكز الشرطة هنا وهناك تحرس الطريق، وكانت هناك خيمة بنية اللون مثل لون الصخور ورجلان أو ثلاثة مع خيولهم، بقمصانهم المفتوحة لاستقبال الشمس. وحيث نهر هاييرا يتدفق من خلال الوادي، ينمو الزيتون البري بكثرة. رفع الصبار أشواكه فوق غابة من الدفلة ذات الأزهار الوردية، الزهرة التي يقول العرب أن عبيرها يقتل من ينام بقربها. ظهرت بين الصخور المتناثرة في الأفق قرية مغربية، بيوتها طينية سقفها من القش. وفي سفح التل توجد قبة لأحد القديسين، تتجه إليها للعبادة شخصيات متّشحة بالبياض. امتطى شريف من الشرفاء بغلا بسروج ذات زخارف قرمزية، ومضى خادم يركض أمامه، يصرخ قائلا، “أفسحوا المجال لضيف الله، المبارك”.
أبهجت شمس إفريقيا المنظر، ولكن عندما حلت سحابة فوق رؤوسنا، كشفت عن منطقة منكوبة، حيث القرى تختبئ بين صخور بنفس لونها وشكلها، ولا تجعل الناظر يرى إلا تلالا مقفرة تكتسح السماء. أرض يقظة تضم قناصي الريسوني الذين بإمكانهم تعطيل سير طابور من الإسبان. ظهرت بن قريش كجدار أبيض مسنن. هنا، تم بناء المركز الإسباني حول منزل قديم للريسوني، فر إليه الشريف بعد الاستيلاء على عين الفندق. وعلى بعد أمتار قليلة، يقع المسجد حيث كان الشريف يصلي من أجل التدخل الإلاهي الذي يعتقد أتباعه أنه تحقّق جراء كارثة مليلية. قدم لي صبي الشريف باقة من أزهار بهاء الصباح وأزهار الزنبق الصفراء. ثم قال: “لا يوجد في العالم سوى شيئين خيرين – الزهور والنساء”. فقلت: “لماذا لا تبدأ بالنساء في ترتيبك؟” أجاب: “والله الأمران سيان! إن سيدي الشريف لم يرفض مطلقاً طلبَ امرأة، ولكن الزهور أقل إثارة للمشاكل! “.
ترجمة : الدكتورة إيمان الريسوني أستاذة اللغة الإنجليزية واللسانيات بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – جامعة عبد المالك السعدي
[1] غالبا ما يدعى الريسوني ب”الشريف” من طرف مناصريه.