لا زلت أتذكر فترة الثمانينات بشغف كبير، كانت الهوايات والاهتمامات ووسائل الترفيه مختلفة تماما عما نحن عليه اليوم، أقصى ما تتوفر عليه أغنى البيوت المغربية من معدات تكنولوجية هو جهاز التلفاز بحجمه الضخم المربع وبمكانته الرهيبة والمحاط بجميع أنواع الديكورات، جهاز يبدأ تشغيله حوالي الساعة السادسة مساء ويطفئ أنواره على الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، تلفاز لم يكن يحتاج لجهاز التحكم عن بعد قصد تغيير القنوات، لأن قناة واحدة كانت هي السائدة والمسيطرة والفارضة نفسها على كل المغاربة.
علاقتي بهذا الجهاز كانت تصل ذروتها يومي الإثنين والأربعاء، حيث كانت للبطولة الألمانية والانجليزية مكانة متميزة في حياتنا الرياضية، وكنا نتابع أخبارها ونتائجها بشغف كبير، ونشجع بعض فرقها بنفس الحماس الذي يعيشه هذا الجيل حيال قطبي الكرة الإسبانية “البارصا” و”الريال”.
كنت من عشاق ومحبي فريق بايرن ميونيخ في البطولة الألمانية بقيادة جيل “برايطنر” و”رومينيجه”، وفريق “ليفربول” في البطولة الإنجليزية بقيادة الهداف “روش”، شغفنا بكرة القدم جعلنا ننظر إلى البطولة الألمانية كنموذج يحتدى به وقوة رياضية عالمية، دفعني من حيث لا أدري إلى التعلق بالمنتخب الألماني وتشجيعه في كل التظاهرات الرياضية الدولية حتى وقت قريب.
بوووووم، وتأتي صورة واحدة قلبت كل الموازين والمفاهيم، ومحت سنين عديدة من التعلق الرياضي، إنها صورة لاعبي المنتخب الألماني وهم يضعون أيديهم على أفواههم تضامنا مع فئة ابتليت بعدوى ضد الفطرة الإنسانية والعقيدة الدينية والخصوصية الاجتماعية للبلد المنظم، فئة لم تكتف باجترار ابتلائها لوحدها، بل حاولت فرضها والتطبيع معها وتسويقها داخل جميع المحافل الثقافية والفنية والرياضية.
فجأة اكتشفت أن نظرتي للمنتخب الألماني كقوة رياضية رائدة على الصعيد العالمي انقلبت رأسا على عقب، بل انتابني إحساس بالذنب كوني من مشجعي المنتخب الألماني منذ الثمانينات، هكذا حولت صورة واحدة نظرتي لمنتخب وثقافة ودولة كنت أعتبرها إلى زمن قريب نموذج يحتذى به على الصعيد السياسي والاقتصادي والرياضي، وهي الصورة التي غيرت وقلبت بدون شك تعاطف كثير من المتتبعين الرياضيين مع المنتخب الألماني لكرة القدم، حيث صار الكل يرغب في إقصائه من الدور الأول للمونديال وعودته إلى حيث يمكن للاعبيه وضع أيديهم حيث ما يشاؤون.
مقابل هذه الصورة، برزت كلمة من ثلاث حروف استطاعت أن تحجز لها مكانة مرموقة ضمن القاموس اللغوي لمونديال 2022، وصارت حديث المجتمع المغربي ورمزا للنجاح والتفوق، بل اعتبرت كلمة سر ومفتاح لإنجاز عالمي وسبق رياضي لم يتحقق مثله من قبل على المستوى القاري والعربي، كلمة اختلف الكثير في تفسيرها، منهم من غلفها بالطابع العقائدي ومنهم من ربطها بالطابع الخرافي الشعبي.
شخصيا أرى أن لكلمة “النية” حمولة علمية ونفسية، وتعني الثقة بالنفس والإيمان بالقدرات والطموح إلى تحقيق الأفضل، كل هذه المصطلحات الكبيرة والغليظة اختزلها واختصرها الزعيم والقائد وليد الركراكي في كلمة “النية”، وهو أمر عادي إذا ما علمنا أن المعجم اللغوي العربي للمدرب واللاعبين الذين ترعرعوا ودرسوا بأوروبا ضعيف، ويستنبط معظم مصطلحاته “الدارجة” من لغة الوالدين وخصوصا الأمهات المغربيات اللواتي ما زلن يحملن ويحتفظن بالأصول المغربية الأصيلة التي برزت للعالم أثناء قيامهن بتشجيع ومؤازرة أبنائهن خلال المونديال. ولأن مدرسة الأم والأسرة تبقى أكثر تأثيرا من الحجرات المدرسية والمدرجات الجامعية، فإن كلمة النية بالنسبة للقائد وليد الركراكي تعني في مفهومها العلمي الرياضي الثقة بالنفس وعدم استصغار الذات ومقارعة المنافس دون أي مركب نقص.
إذا كانت إمكانيات القارات والدول تختلف في مقوماتها الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإنها تتساوى في النفس البشرية، فالإنسان الفاشل أو الناجح يوجد في أفقر الدول كما في أغناها، الفرق فقط في المحيط الذي يبرز ويعزز فشله أونجاحه، ولعل أكبر دليل على ذلك هو المنتخب الفرنسي الذي يتصدر المشهد الرياضي العالمي وكاد يفوز بكأس العالم للمرة الثانية على التوالي بفضل علو كعب لاعبيه الذين ينحدرون جلهم من أصول إفريقية ومن دول فقيرة ومتخلفة.
أجزم أن القائد وليد الركراكي الذي عايش الوسط الرياضي والكروي بكل من أوروبا وإفريقيا والخليج، أدرك عن قرب أن الفرق بينهم لا يتجاوز الحاجز النفسي لدى الممارس وبعض الامكانيات اللوجستيكية طبعا، من هنا نطق لسانه العربي “الدارجي” البسيط كلمة “النية” مستوحيا المصطلح لغويا من الوسط الاجتماعي والأسري وعلميا من الوسط الأكاديمي الرياضي ذو المستوى العالي، حيث يتوفر على أعلى مراتب وتصنيفات المدربين الكبار، إضافة طبعا إلى تجربته الميدانية كلاعب ناجح ومدرب استطاع إبراز قدراته في فترة وجيزة وتحقيق ألقاب مع فرق مختلفة.
كل ما ذكرناه حول الحمولة العلمية لمصطلح “النية” برز بجلاء ووضوح في علاقة المدرب بلاعبيه ومساعديه وطاقمه ومحيطه، حيث استطاع رغم محدودية مستوى بعض لاعبيه وقلة الاختيارات على مستوى دكة الاحتياط من خلق أجواء استثنائية داخل المنتخب الوطني وتحقيق ما لم يتم تحقيقه قاريا وعربيا منذ ظهور لعبة الكرة القدم، وصار لدى بعض المدربين والمؤطرين فضول كبير يتجاوز الجانب التقني المحض ويرغبون في استلهام الدروس والأدوات النفسية والتحفيزية التي يشتغل بها الإطار الوطني وليد الركراكي، فما قدمه اللاعبون المغاربة خلال المونديال لم يتجاوز سقف انتظاراتنا كمحبين ومشجعين فقط، بل فاق أحيانا حتى الإمكانيات التقنية الفردية لبعض اللاعبين أنفسهم.
هكذا سيبقى مونديال قطر 2022 راسخا في ذهني ومقترنا بصورة المنتخب الألماني وكلمة وليد الركراكي، صورة استطاعت أن تنزل الألمان من برج التقدير الرياضي والاحترام التاريخي، وكلمة كان لها وقع الرفعة والانتصار والتقدير والسمو.