معجزة القراَن الكريم
كتب:عبدالباقي الفحصي
القرآن الكريم ليس كتاباً مختصاً بعلم من العلوم فلا يتلخص هدفه لإثبات شيء علمي أو نفيه ككتب الهندسة والطب والأحياء لأن العلوم هي نتاج العقل البشري فمهما اجتهد العقلاء استطاعوا أن يذللوا صعوبات الطبيعة ويخترعوا وسائل وأجهزة تخدم البشرية جمعاء بينما القرآن كتاب الحياة هدفه تنظيم حياة الفرد والمجتمع من كل النواحي أي كل ما يتصور ضمن الحياة الدنيوية والأخروية من اجتماع وسياسة وثقافة واقتصاد وتربية نجده في القرآن المجيد قانوناً ودستوراً وطريقة لهذه الناحية وتلك الظاهرة… فالقرآن يبني العقيدة الصحيحة في النفس ويهدم التراكمات الفكرية السلبية في ذات الإنسان وهو يبني أسس الأخلاق في الإنسان والمجتمع ويحارب النفاق والالتواء السلوكي ويجاهد الأعداء والمنافقين.
مع كل ما تقدم نلاحظ أن القرآن العزيز ينفرد بالأعجاز العلمي حيث يشير في بعض آياته الكريمة إشارات علمية وهو مستطرد في الكلام أثناء التشبيهات أو لتقريب فكرة معينة هدفها البناء الإيماني ومع ذلك نلاحظ إن هذه الإشارات العلمية قد أثبتها العلم الحديث اليوم بعد جهد متواصل ولفترة طويلة وتبقى بعض الأسرار العلمية في القرآن عسيرة الانكشاف من قبل العلم والعلماء وحتى اليوم وبمعنى آخر لا زال التطور العلمي عاجزاً عن كشف أسرار هذه الإشارات العلمية وحتى الكلمة الواحدة في موقعها لها دلالة علمية معينة يكتشفها العلم هذا اليوم ويقف إجلالاً أمامها ويزداد إعجاباً بهذا الكتاب العظيم بل حتى الحرف الواحد في موقعه له دلالته العلمية الواضحة كالتاء مثلاً فإنها تاء التأنيث أحياناً، هذا الحرف البسيط له دلالته العلمية يقرها العلم هذا اليوم بعد أن كان يمر عليها مرور الكرام فنقرأ مثلا في قضية بيت العنكبوت التي سنتحدث عنها قريباً كيف أن تاء التأنيث لها دلالتها العلمية.
فمن هنا يجزم العقلاء بأن الرسول الأمي (صلى الله عليه وآله) في تلك البيئة المتخلفة عن أساليب التطور العلمي والتكنولوجي لا يمكنه أن يأتي من عنده بهذا الكتاب الذي يحوي أسراراً علمية يكتشفها العلم المتطور في القرن العشرين أو لا تزال غامضة عليه حتى الآن ولربما تبقى أسراراً خاصة لن يفهمها العلم مهما تطور وتقدم كما في معرفة الروح.
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) . [سورة الإسراء: الآية 85].
تبقى الروح لغزاً محيراً وان وسائلنا العلمية لا تنهض بمعرفتها لأنه: (وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً. . ) .
فيكون إذن هذا الإعجاز العلمي من الدلائل الواضحة لمعجزة القرآن بأنه منزل من قبل القدير العليم بديع السموات والأرض.
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) . [سورة النساء: الآية 82 ].
يقول الدكتور (واجلري) من جامعة نابل:
القرآن: (يضم آيات عديدة تبين القوانين الطبيعية والعلوم المختلفة وتناوله لهذه المواضيع العلمية دقيق وبعيد عن الأخطاء إلى الحد الذي تهبط أمامه منزلة رجال العلم والفلاسفة والسياسيين) (12) .
مع العلم أن القرآن كتاب تربية وهداية وليس كتاباً علمياً وإنما يتناول العلم في بعض الآيات للتوضيح والتقريب ـ كما مر ـ.
ويمكن أن نستعرض بعض هذه الأمثلة لتوضيح المسألة:
(أ) تقول الآية الكريمة: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) . [سورة الحج: الآية 73].
وهذا مثل مازال معجزاً للعلم والعلماء بعد ألف سنة من تطور العلم والتكنولوجيا فمن يستطيع أن يخلق ذبابة على هوانها وتفاهتها؟ وإذا سلبتك الذبابة حياتك بمرض تنقله إليك فمن يستطيع أن يرد لك تلك الحياة؟ بل إنها لو سلبتك ذرة من النشاء من طعامك فإن عباقرة الكيمياء لو اجتمعوا لا يستطيعون استرداد هذه الذرة من أمعائها لأنها تتحول فوراً إلى سكر بفعل الخمائر الهاضمة فما أضعف الطالب والمطلوب، ما أضعف عبقري الكيمياء وما أهون الذبابة وما أتفه ذرة النشاء في عالم هائل بلا حدود) (13) .
(ب) في أكثر من آية حينما يذكر سبحانه حواس الإنسان يتقدم ذكر السمع على البصر هذا التقديم له دلالته العلمية يقول الدكتور مصطفى محمود: (وهي مسألة يعرف سرها الآن علماء الفسيولوجيا والتشريح فهم وحدهم يدركون أن جهاز السمع أرقى واعقد وأدق وأرهف من جهاز الأبصار ويمتاز عليه بإدراك المجردات كالموسيقى وإدراك التداخل مثل حلول عدة نغمات داخل بعضها البعض مع القدرة على تمييز كل نغمة على انفراد كما تميز الأم صوت بكاء ابنها من بين زحام هائل من آلاف الأصوات المتداخلة. . يتم هذا في لحظة. . أما العين فهي تتوه في زحام التفاصيل ولا تعثر على ضالتها يتوه الابن عن عين أمه في الزحام ولا يتوه عن سمعها والعلم يمدنا بألف دليل على تفوق معجزة السمع على معجزة البصر ولم يكن هذا العلم موجوداً أيام نزل القرآن) (14) .
يقول تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) . [سورة النحل: الآية 78].
وفي آية أخرى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) . [سورة الإسراء: الآية 36].
فمجرد تقديم السمع على البصر لفظاً له دلالته العلمية الدقيقة.
(ج) تقول الآية المباركة: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) . [سورة العنكبوت: الآية 41].
فهنا نرى القرآن يختار صفة التأنيث حينما يتحدث عن العنكبوت فيقول:
(كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً) وقد كشف العلم مؤخراً أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت وليس الذكر وهي حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن.
والحقيقة الثانية هي وصف بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت ولم يقل القرآن خيط العنكبوت أو نسيج العنكبوت وإنما قال بيت العنكبوت وهي مسألة لها دلالة ولها سبب. . والعلم كشف الآن بالقياس: إن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب ثلاث مرات وأقوى من خيط الحرير وأكثر منه مرونة فيكون نسيج العنكبوت بالنسبة لاحتياجات العنكبوت وافياً بالغرض وزيادة ويكون بالنسبة له قلعة أمينة حصينة فلماذا يقول القرآن: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) ولماذا يختم الآية بكلمة (لو كانوا يعلمون) لا بد أن هنالك سراً.
والواقع أن هناك سراً بيولوجياً كشف العلم عنه فيما كشف لنا مؤخراً فالحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم البيت من أمان وسكينة وطمأنينة فالعنكبوت الأنثى تقتل ذكرها بعد أن يلقحها وتأكله. . والأبناء يأكلون بعضهم بعضاً بعد الخروج من البيض ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده بعد أن يلقح أنثاه ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها.
وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخاً وكميناً ومقتلاً لكل حشرة صغيرة تفكر أن تقترب منه وكل من يدخل البيت من زوار وضيوف يقتل ويلتهم. . إنه ليس بيتاً إذن بل مذبحة يخيم عليها الخوف والتربص وإنه لأوهن البيوت لمن يحاول أن يتخذ منه ملجأ والوهن هنا كلمة عربية تعبر عن غاية الجهد والمشقة والمعاناة وهذا شأن من يلجأ لغير الله ليتخذ منه معيناً ونصير ا ……….. يتبع