إضراب 29 أكتوبر بين السياسة والنقابة



إضراب 29 أكتوبر بين السياسة والنقابة


كتب: أجَـحَـــا فـؤاد

ما معنى الإضراب العام ، وما الذي يحدد الإضراب العام ؟ ولماذا في هذا الوقت بعينه تكتلت النقابات ووحدت الكلمة فخرجت بقرار الإضراب العام بعد تفرقة طويلة ونوم عميق ؟ هل الملفات الإجتماعية لم تكن موجودة فوُجدت فجأة مما استدعى هذه ‘القومة’ النقابية ؟ وكذلك ، إذا كانت هناك ملفات إجتماعية تقتضي تحريكا قويا للشارع من أجل حمل الدولة على الإستجابة لمطالب الشعب فهل هذه النقابات الموجودة الآن هي النقابات المُؤهلة لتمثيل الشارع المغربي ؟ وهل من شأن نقابات مُهترئة يَنْخَرُها الفساد من كل الجهات تمتلك الشرعية لأن تكون ممثلا نزيها ومنبرا محترما للتكلم بإسم المواطنين ؟ هل من شأن نقابات أصبحت جزءا من منظومة الريع والفساد ومجزرة للديمقراطية أن تكون مدافعا أصيلا عن تطلعات الشغيلة وانتظاراتها ؟ وبالتالي هل موضوع الإضراب العام الذي سيعرفه المغرب يوم 29 أكتوبر يستحق بالفعل أن يكون موضوعا للإضراب العام ؟.

المطالبة بالتراجع عن تمديد السن القانونية للتقاعد ليس مطلبا عاما للمغاربة ولا يصح أن يكون موضوعا من موضوعات الإضراب العام ، بكل بساطة ، لأن أغلب فئات الشعب المغربي لا تعرف شيئا إسمه التقاعد ولا تستفيذ من هذا الحق الإنساني ، بل أغلب هذه الفئات توجد في العراء خارج جميع أنواع التغطيات بما في ذلك التغطية النقابية ، فكيف تسمح هذه النقابات لنفسها بدعوة هذه الفئات إلى المشاركة في إضراب يتوخى إسقاط تعديل تشريعي يهم نظام التقاعد وهي المحرومة أصلا من مكسب التقاعد جملة وتفصيلا ؟ . إضراب يوم 29 أكتوبر ليس إضرابا عاما ولا يمكن أن يكون عاما ، إنه إضراب فئوي ، إنه إضراب الأجراء ، وأساسا ، أجراء الوظيفة العمومية (الموظفون) ، أما أجراء القطاعات الأخرى فتلك حكايات أخرى . نعتُ هذا الإضراب بالعمومية يعكس فقر الخطاب النقابي المغربي الذي لا يزال رهينة عقلية ستينيات القرن الماضي الذي يقرأ الحياة من نافذة الأجرة ومن زاوية مصلحة الموظف والأجير والذي ، بالمناسبة ، مهما ارتقى فإنه يبقى قاصرا عن إدراك الإكراهات الحقيقية للمعيش اليومي للمغاربة ومتخلف عن مسايرة التحولات العميقة التي شهدها المجتمع المغربي ، فوجهة نظر الأجير وتفكيره لا يتعدى حدود الأجرة ؛ هيمنة خطاب الموظفين على النقابات (وكذلك على الأحزاب) هو العلة في عزوف الشباب عن العمل النقابي وعن الإنتماء إلى الأحزاب لأن الشباب لا يلقى ذاته داخلها وخطاباتها لا تعبر عن همومه ، وإذا استمرت النقابات (ومعها الأحزاب السياسية) في اعتماد هكذا خطاب فإنها لا محالة ستهيئ الأجواء لبروز صراع اجتماعي هامشي/جانبي بين الأجراء وغير الأجراء ، بين الموظفين وباقي المواطنين ، وستحكم على نفسها بالتقوقع والإنكماش ، وهذا هو الحاصل الآن ، وقد يكون من دواعي هذا الإضراب جس نبض الشارع للتعرف على وزنها الحقيقي ، أو على الأقل ما تبقى منه، وإنني هنا أسمي هذا الإضراب بــ ‘القومة’ النقابية تشبيها بقومة جماعة ‘العدل والإحسان’ التي وقعت منذ سنوات خلت .

في المجتمع الرأسمالي تشكل الأجرة المعيار العام للدخل ، من خلالها يتحدد مستوى المعيشة وحجم القدرة الشرائية للمواطنين كما أن من خلالها تُرصد مؤشرات الأزمة أو الرخاء الإجتماعيين وعلى أساسها تُبنى المنظومة الحقوقية للمواطن ، لذلك فهي تمثل القاعدة المركزية للفعل النقابي والسياسي داخل الدول الرأسمالية ، أما في المغرب فالعكس هو الصحيح ، المعيار العام للدخل ليس هو الأجرة ، الأجراء يمثلون أقلية داخل المجتمع المغربي ، إن دخل الأغلبية العظمى من المغاربة غير مهيكل ولا تؤطره محددات ثابتة فبقيت هذه الأغلبية في العراء التام بدون تعبير نقابي ولا سياسي لأن أدوات هذين التعبيرين ، منذ استقلال المغرب إلى الآن ، ظلت مُحتكرة من طرف الأقلية الأجيرة ، وبالذات من طرف أجراء الوظيفة العمومية . إن المعيار الحقيقي لقياس كلفة العيش في المغرب لا يجب أن يستند إلى الأجور ، كما درجت على ذلك ثقافة المغاربة ، وإنما يجب أن يستند إلى مداخيل عامة المواطنين والمواطنات الذين لا يتمتعون بأي حق من الحقوق التي يتمتع بها الأجراء وعلى رأسها الحق في التقاعد .

فلو كانت نقاباتنا ، ومعها الأحزاب السياسية ، صادقة في خدمة قضايا الشعب المغربي لكانت ناضلت من أجل تعميم نظام التقاعد ، ولو هي الآن صادقة في الدفاع عن حقوق الأجراء عبر هذا الإضراب أو غيره فعليها أن تطالب بتحرير نظام التقاعد وبإلغاء المؤسسات المشرفة عليه حاليا وبتبديلها بمؤسسات حرة غير خاضعة لوصاية الدولة وأن تطالب بصرف أجور المأجورين كاملة دون اقتطاع حتى يبقى للأجير الحرية المطلقة في تدبير شؤون تقاعده في السوق الحرة مع صناديق إحتياطات التقاعد ، وبهذه الطريقة فلتمدد الحكومة سن التقاعد إلى الأبد إذا شاءت ، كما أنه بهذه الطريقة يتعمم التقاعد تلقائيا ويتدمقرط الولوج إلى نظام المعاشات باعتباره حقا أساسيا من حقوق الإنسان ؛ لكن ، هذا يبقى مجرد كلام ، أما النقابات فلها حسابات أخرى وتُحركها هواجس أخرى ، وإلا ما هي الغاية التي يرومها هذا الإضراب العام في هذا الوقت بالذات ؟ .

مشكلة التقاعد لا تكمن في تمديد السن القانونية وإنما تكمن في الإقتطاع الإجباري ، والغريب هو أن الجمهور النقابي والأجراء مُقتنعون ويقبلون بالإقتطاع إلى حدود سن الستين وكأنه تصرف مشروع لا إشكال فيه ويخدم مصلحتهم والذي هو غير مشروع في نظرهم ويستدعي الإحتجاج هو أن يستمر هذا الإقتطاع إلى ما بعد الستين . إن طرح المشكل بصيغة مغلوطة لن يُسفر إلا عن حلول مغلوطة ، وطرح المطلب بصيغة خاطئة يُضيع فرص تحقيق المطلب ، وهذه هي المساحة التي تتحرك في إطارها نقاباتنا .

مسألة ارتفاع الأسعار عموما وأسعار المواد الإستهلاكية بصورة خاصة توجد في صلب موضوعات هذا الإضراب العام ، وهي مسألة لازمت الخطاب النقابي والسياسي وتصدرت واجهة جميع المطالب النقابية وملفات الحوار الإجتماعي طيلة تاريخ المغرب الحديث . في البيان الثلاثي الموزع بمناسبة إضراب 29 أكتوبر2014 نقرأ على رأس أسباب الإحتقان الإجتماعي :’ضرب القدرة الشرائية لعموم المأجورين والفئات الشعبية بالزيادات المتتالية في الأسعار’. هذا الكلام ثابت في الأدبيات النقابية والسياسية إلى حد أصبح ترنيمة مقدسة لا أحد يجرؤ على معارضتها أو حتى على مناقشتها وارتقت إلى مكانة آية قرآنية مُحْكَمَة .

الذي يجب المطالبة به من طرف هذه النقابات هو الرفع من مداخيل عموم المواطنين المغاربة سواء كانت هذه المداخيل على شكل أجور أو على شكل مداخيل حرة لمسايرة الإرتفاعات المتتالية في الأسعار التي تفرزها تقلبات السوق وواقع التبعية الإقتصادية وليس عليها المطالبة بالحد من ارتفاع الأسعار ، والذي ينبغي المطالبة به هو تمكين المغاربة من بلوغ الحد الأدنى العالمي للعيش الذي يقف عند عتبة 15000 درهما شهريا وليس المطالبة بتخفيض الأسعار ، والذي يجب أيضا المطالبة به من طرف هذه النقابات هو إلغاء صندوق المقاصة حتى لا يظل المواطن المغربي شحاذا ومتسولا وعبدا لصدقات هذا الصندوق الذي بالمناسبة تستعمله الحكومات المتعاقبة لمعاقبة المغاربة وإذلالهم وإهدار كرامتهم من خلال إقناعهم وإفهامهم بأن هذا الصندوق هو الذي يحميهم من تغول السوق الدولية ويقيهم شر المجاعة ؛ فإذا كانت الأغلبية العظمى من الأجراء والأغلبية العظمى من المزاولين للمهن الحرة لا يصل دخلها إلى نصف هذا الحد الأدنى العالمي من المداخيل فمن أين وكيف ستنطلق قاطرة التنمية وكيف السبيل إلى الوصول إلى المواطنة الكاملة ما دام المواطن تحت رحمة ومُنة ورأفة صندوق المقاصة ؟ .

الخطاب النقابي ضيق الأفق لأنه خطاب فئوي منحاز للأجراء وخصوصا أجراء الوظيفة العمومية ، فما يهمه هو الدفاع عن أجرة الأجير العمومي ولو كان ذلك على حساب باقي أصناف الأجراء وعموم المواطنين الذين تشكل الأسعار مصدر رزقهم وأساس حياتهم وعلى حساب طموحات المغاربة في التنمية وإنعاش السوق الداخلية . على النقابات أن تعلم أن المطالبة بالحد من ارتفاع الأسعار أو بتخفيضها هي مطالبة بضرب القدرة الشرائية لعموم الفئات الشعبية ومعها جزء كبير من فئات الأجراء التي تدعي هذه النقابات أنها تدافع عنها ؛ إذا ظلت الأسعار جامدة فكيف يمكن الرفع من أجور شغيلة المخابز والمقاهي والمطاعم وقطاع النقل والتجارة والصيادين والعمال الفلاحيين والعاملين بالقطاع الخدماتي والحرفيين والمهنيين … كيف يستطيع صاحب مشروع أن يستوفي حقوق مأجوريه كاملة أمام شح المداخيل ؟ وإذا ظلت الأسعار منخفضة ومتدنية فكيف يمكن للفلاح الصغير والمتوسط أن يتشبث بأرضه ويُنمي أنشطته الإنتاجية ويطورها وكيف بالتالي للبادية مواكبة التحديث والعصرنة… ما نصيب الفلاح من ثمن كلغ من البطاطا والطماطم والبصل… إذا كانت الأسعار رخيصة ؟ وإذا بقيت الأسعار كما تريدها النقابات ويهواها جمهور أجراء الوظيفة العمومية (الموظفون) فكيف يمكن تشجيع الإستثمار الإجتماعي وخلق مناصب شغل وتحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة ؟ . من حق النقابات الدفاع عن المنتسبين إليها من خلال المطالبة بالزيادة في الأجور ، لكن ليس من حقها المطالبة بالحد من ارتفاع الأسعار لأن هذا المطلب يضر بمنافع الآخرين والذين هم الأكثرية ، كما على النقابات أن تكف عن خطاب التضليل وطمس الحقائق بأن تجعل مصلحة أجير الوظيفة العمومية نموذجَا لمصالح الفئات الشعبية وبأن تكف كذلك عن قراءة الواقع المعيشي للمغاربة عبر نافذة الأجرة وإلا سيؤدي ذلك إلى نشوء نزاع إجتماعي .

إلى متى ستبقى ثقافة أجراء الوظيفة العمومية (الموظفون) مهيمنة على خطاب الشارع وعلى خطاب النقابات وخطاب الأحزاب السياسية ؟. وإلى متى ، في المقابل ، سيبقى الخطابان السياسي والنقابي يعبران فقط عن تطلعات شريحة أجراء الوظيفة العمومية ويهمشان أوسع الفئات الإجتماعية التي لا يتم ذكرها إلا للإستئناس ولملأ الفراغ داخل هذه الخطابات ودغدغة مشاعرها وتوهيمها بأنها في صلب الإهتمام ؟ . على هذه النقابات أن تعترف بأنها لم تستطع تحقيق زيادة في أجور الموظفين العموميين طيلة سنوات عديدة بنفس الحجم الذي حققتها لهم الجماهير الشعبية إبان حركة العشرين من فبراير ، وعلى هؤلاء الموظفين أن يعلموا أنهم لم يستفيذوا من هذه الزيادة (ستمأة درهم) بفعل الإطارات النقابية ولكن بفضل وفعل حركة الجماهير الشعبية التي خرجت بخفي حنين من تلك الملحمة الشبابية سوى بدستور ممنوح أجوف ، وها هي اليوم مدعوة إلى دعم مطالب لا ناقة لها فيها ولا جمل عبر هذا الإضراب العام ليومه الأربعاء 29 أكتوبر .

أن يكون الإضراب عاما معناه أنه يتضمن مطالب عمومية لا مطالب فئوية ، والحاصل الآن هو إضراب فئوي قطاعي أريد له ، سياسيا ، أن يكون عاما . هل النقابات وبالشكل النادر الذي تكتلت به في هذا الإضراب تؤدي دورا بالوكالة عن الأحزاب السياسية أو على الأصح ، بالوكالة عن تصور سياسي لمواجهة الإسلام السياسي ؟ فالذي لا شك فيه هو أن إضراب تاسع وعشرين أكتوبر إضراب سياسي وليس إضرابا نقابيا .

أجَـحَـــا فـؤاد . شفشـاون .

Ajaha.fouad@hotmail.com

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً