“الريسوني سلطان الجبال” قصة حياته كما روتها روسيتا فوربيس (الحلقة الثانية)

“الريسوني سلطان الجبال” قصة حياته كما روتها روسيتا فوربيس (الحلقة الثانية)

 

في وقت سابق، كان علماء الشّاون ينادون بتنصيبه سلطانا بدعوى أن مولاي عبد العزيز كان دمية بيد فرنسا وأن الإسلام لا يعترف بخليفة يخضع لحماية أجنبية. رفض الريسوني هذا العرض زاعما أنه سيقاوم مجيء عدوه سيلفستر، دون أن يدفع المسلمين إلى جهاد مع المسيحيين ستكون له حتما عواقب كارثية على بلاده. من المحتمل أنه في هذا الوقت كان لا يزال يأمل في التوصل إلى تفاهم مرض مع إسبانيا، لأنه رحّب ببادرة المندوب السّامي التصالحية المرسلة من تطوان، بينما كان يتصدّى لهجوم سيلفستر من العرائش.

 

في مايو عام 1915، وبسبب الخطأ المؤسف الذي ارتكبه رجل من رجاله، (قتل واحد من رُسل الشريف وأحد أصدقائه الحميمين، المدعو علي أقلعي، أثناء سفره بتصريح مرور “Laisser passer” إسباني)، حمّل الجنرال مارينا (المقيم العام) والذي لطالما كان معارضا للحرب، نفسه مسؤولية هذه الفعلة، وأرسل استقالته، مصرّا أن يحذو سيلفستر حذوه ويرسل هو الأخر استقالته.

 

كان الهدف الأول للمقيم العام الجديد، الجنرال خوردانا، هو تحقيق السلام مع الشريف، ومن خلال حلف “الخطوط” (سبتمبر 1915)، تُركت بلد التلال عمليا في حوزة الريسوني، بينما احتلت إسبانيا الساحل. وقد قاتل سكان الجبال لعدة أشهر جنباً إلى جنب مع الجيش الإسباني، وفتحت طريق طنجة – تطوان للأوروبيين، ولكن كانت هذه هي السنة الثانية من الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى) وكانت المؤامرة الألمانية متفشية أنداك في المغرب.

 

حرص الشريف على إبقاء روابط الاتصال مع كلا الطرفين وأن تستفيد بلاده من الطرف الرابح أيا كان، في حين أنه لم يعر اهتماها للعروض الكثيرة والمبهرة التي قدمها مانيسمان[1]، ورفض بشكل قاطع مهاجمة المنطقة الفرنسية، فقد أخد بعين الاعتبار إمكانية الحصول على الحماية الألمانية لابنه، واستخدم أسلحة وأموال تيوتون[2] التي تدفقت إلى شمال إفريقيا، وكان يماطل كلما رغب خوردانا في توسيع نفوذ الحماية الفعلي.

 

تزامنت الهدنة الأوروبية تقريبا مع موت خوردانا[3] (نوفمبر 1918). ومن ثم، في الوقت الذي كان الريسوني ليتعاون فيه بحماس تامّ مع إسبانيا – بعد إعفاءه من مهمة استرضاء ألمانيا – كان قد وصل مقيم عام جديد، بيرينجير(في يناير 1919) بنيّة معلنة من إسبانيا بفرض سلطتها عن طريق الاحتلال العسكري.

 

همّ الريسوني بجمع القبائل حوله ونجح في إغلاق طريق طنجة – تطوان إلى غاية أكتوبر 1919، حين أخذ منه فندق عين الجديدة[4] الشهير، مفتاح التواصل الداخلي، إبان هجوم ثلاثي مشترك. وخلال فصل الصيف، عين الريسوني سلطانا للجهاد خلال مؤتمر عقد ليلا أقيم أمام قبر جده سيدي عبد السلام، الشيء الذي ساهم في انضمام حوالي 8000 رجل تحت لوائه بحلول العام التالي.

 

بعد سقوط الشاون في أكتوبر 1920، حاولت الجيوش الإسبانية التي تعمل من هناك ومن العرائش إحداث قاعدة عسكرية في ملتقى جبال الأخماس جنوب المقر الرئيسي للشريف في تازروت، وبذلك تكون الدائرة التي طوقت الريسوني قد اكتملت. وقد جعلت طبيعة البلد هذا الأمر غير قابل للتطبيق على أرض الواقع. وبعد فحص منطقة “مدشر القلة[5]“، تقدم بيرينجير إلى تازروت من الشمال عبر بني عروس. وبعد قصف استمر لثلاثة أيام، أضحت القرية مهجورة، وتَبِعَ بضع مئات من سكان الجبال الشريف إلى ملجئه الأخير بين غابات وكهوف بوهاشم. كانت نهاية الحرب تلوح في الأفق، عندما تدخلت “البركة”، أو الحظ، لإنقاذ الريسوني من أعدائه.

 

في يوليو عام 1921، وردت أنباء عن كارثة مليلية فأسرع بيرينجير إلى المنطقة الشرقية. كانت قد بدأت المفاوضات مع الريسوني، الذي استغلّ المهلة التي كان يعلم أنها ستكون مؤقتة فقط، لإعادة تزويد مخازنه وذخائره. وفي سبتمبر، جدّدت القوات الإسبانية الهجوم، وخلال فصل الشتاء استولت على آخر بؤرة مقاومة لسكان الجبال، الزاوية التليدية في الأخماس. ومع ذلك ظل الريسوني صامدا، وكان شعبه يعاني من المجاعة، لأن المحاصيل دمرت مع القرى. لقي النساء والأطفال حتفهم جراء التعرض لقساوة عوامل الطقس وندرة الطعام، وقُتل أغلب أصدقائه المقرّبين. كانت الوفود تقدم عليه في كل يوم، ملتمسين منه تحقيق السّلام. في هذا الوقت كان المرض، الذي ألم به وكان متوقعا أن يودي بحياته، يتسبب للرجل في ساعات من الألم، حيث لم يكن بوسعه الوقوف بشكل مستقيم أو التحدث، ولكن إجابته كانت دوماً هي نفسها: “إسبانيا هي التي عليها صنع السلام”.

 

“أنت تتحدّث عن المعجزات يا سيدي”.

 

“ستحدث معجزة”.

 

كانت المعجزة هي قوة شخصيته التي شجّعت المرتاب، وقوّت الضعيف، وعكست عليهم الإيمان الذي بداخله. وبطبيعة الحال، بالنسبة للعرب، فقد كان “للبركة” الفضل في سقوط الحكومة الإسبانية في وقت مبكر من عام 1922 وإعادة انتخاب بيرينجير، وهما الأمران اللذان كان الريسوني، بصفته داهية في السياسة، يراهن عليهما.

 

كان بورغيتي قد عين مقيما عاما ي صيف عام 1922، وبمجرد وصوله إلى تطوان، أرسل زوغاستي وسيرديرا، وهما صديقان قديمان للشريف، للترتيب لعقد سلام دائم.  بدأت المؤتمرات في أغسطس 1922، وتم التوصل إلى اتفاق، أكدت إسبانيا بموجبه احتلالها للمنطقة الغربية بأكملها. فقام الشريف بتسريح قواته وعاد إلى تازروت. وتم تنصيب أبناء إخوته وأقاربه الآخرين كحكام للأقاليم الرئيسية، لكنه لم يقبل أي منصب أو راتب لنفسه، مؤكدا أن موقفه لم يتغير منذ عام 1911. فقد كان على استعداد لدعم الحماية الإسبانية، ولكنه لن يعترف البتة بسلطة الخليفة الدمية، مولاي المهدي.

 

كان الريسوني صادقا في عزمه بألا يقدم أبدا طلبه في تطوان، لكن وعلى الرغم من ذلك فقد أرسل بعض أتباعه، بناء على طلب عاجل من المقيم العام، لتمثيله. عاش في غاية البساطة في قريته الجبلية، يصلي ويصوم ويدرس. إنه متعب، واهتماماته روحية وليست جسدية، لكن الشعلة ما تزال متّقدة، يظهر وميضها كلما أتى سادة القبائل من أقصى حدود بلاده للتشاور معه. لا تزال يداه الكبيرتان تحكمان قبضتهما وتتلاعبان بخيوط السياسة المغربية، وستظلان كذلك ما دامت تدبّ فيهما الحياة.

 

ظاهرياً، تبدو حياة الريسوني وكأنها إحدى المغامرات الجامحة، أساسها الحروب والوحشية والطموح السياسي، لكن قصته تظهره كرجل ذي غاية محددة وروح قيادية، فشخصية عميقة كهذه معرضة للعديد من التيارات المتعارضة، كان أقواها وأكثرها سرية التصوّف الذي يظهر جليا حين يصف مراسم حفلة الولاء بمدينة فاس، تلقينه على أيدي العلماء في الشاون وانتخابه “كسلطان للجهاد” على رأس قمة جبل العلم المضيء.  إيمانه الشغوف والبسيط الذي لا يقهر هو ما يميزه، بالرغم من عقليته القاسية، كرحّالة روحاني وباحث عن الحقيقة.

 

ترجمة: الدكتورة إيمان الريسوني أستاذة اللغة الإنجليزية واللسانيات بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – جامعة عبد المالك السعدي

[1] مندوب ألمانيا

[2] تيوتون هو وصف للألمان مثل أن نقول على المغاربة مورو

[4]  لقد أطلقت الكاتبة على فندق “عين الجديدة” إسم “Fondak of Ain el Yerida”

[5]  على مدشر القلة بالخطأAkbar Kola لقد أطلقت الكاتبة إسم

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً