القاطنون بقرية “إغران” يستحضرون الذكرى السنوية الأولى لفاجعة الطفل ريان
وسط ضباب كثيف، تخترق السيارة جبالا تقع إلى أقصى سلسلة الريف الغربي؛ هي جبال وعرة التضاريس، قاسية الملامح، كقسوة حال أهلِها القاطنينَ بها، والمتشبثين بأرض لم ينالوا ثمارَ تنميتها بالشكل المطلوب.
عبر منعرجات جبلية خطيرة، تزداد المسالك وُعورة مع ولوج المجال الترابي لمنطقة “باب برد”، قبل أن تحط سيارة الطاقم في قرية “إغران”، دوار صغير معلق بين الجبال؛ لكنه غدَا منذ عام –وفي أقل من أسبوع– حديثَ القاصي والداني على كل لسان.
تقع القرية التابعة لجماعة “تمْرُوت” بإقليم شفشاون (شمال المغرب) المعروف بطبيعته الجبلية والغابوية الخلابة، كما أنه طالما اشتُهر بنشاط زراعة نبتة “القنب الهندي” المُقنن حديثا؛ ما يشكل، في معظمه، مورد رزق أغلب ساكنة المنطقة.
بعد مرور عام على مأساة أيقظت روح الطفولة وشدت الانتباه إلى قضاياها ليس وطنيا فقط، بل عالميا؛ عاد طاقم من جريدة هسبريس الإلكترونية إلى القرية التي جرت على كل لسان طيلة خمسة أيام خلال شهر فبراير من العام 2022؛ كل ذلك بفضل طفل يدعى “ريان أورام”.
اليوم، بكثير من الأسى والتأثر، يتذكر أهل المنطقة ومعهم كثير من المغاربة “ريان”؛ معتبرين أنه “لن يغادرَ وجدانهم”. إنه “الطفلُ الأيقونة أو الرمز”، وفق إفادات بعض المواطنين الذين صادفتهم هسبريس وهي في طريقها إلى المكان الذي بثت منه لقطات حية لعملية الانتشال قبل عام.
“ذكرى ريان”.. رَهبة المكان
على الرغم من أن الزمن مختلف، أي بعد عام بالتمام والكمال، فإن دوار إغران ما زال على حاله؛ “لا شيء تغير بعد عام على رحيل ريان إلى دار البقاء ورحيل أسرته إلى إحدى المدن المجاورة بجهة الشمال؛ ما عدا إصلاح الطريق الموصلة إلى الدوار”، هكذا عبر أحد شباب دوار إغران وهو يرافق طاقمنا الذي عاين أشغالا جارية قصد توطئة الطريق وتعبيدها بالحصى.
وأضاف المتحدث، وهو يُشير بحسرة وأسى إلى الثقب المائي الذي عَلِق فيه ريان لمدة خمسة أيام بلياليها: “حتى رهبة المكان تختلف في كل مرة أمر فيها من أمام منزل العائلة التي رحلت للعيش في مدينة تطوان بعد الحادث، بعد عام على حدث أيْقظ روح الطفولة فينا”.
وسجل الشاب الذي يتوسط عمرُه عقدَه الثالث، في حديثه مع هسبريس، أن “الحياة عادت إلى طبيعتها في أنحاء قرية إغران، بمجرد ردم الهوة الكبيرة التي تسببت فيها أشغال الحفر والأتربة التي جرت عبر عمليات حفر تواصلت لأيام عموديا وأفقيا”، قبل أن يكمل مستدركا وهو يغالب دموعه: “رغم أن العائلة رحلت عن الدوار، تاركة وراءها منزلها المهجور والمغلَق، فإن الذكرى ما زالت عالقة في أذهاننا، ومن الصعب محوُها.. كما أن مشروع حضانة للأطفال ومدرسة ابتدائية تتوفر عليها المنطقة ما زالا يُذكران ساكنة الدوار بواقع الأطفال المنسيين هنا”.
إلى حين سقوطه في الثقب المائي، لم يكن الطفل الراحل ريان أورام، ذو الخَمسِ سنوات قيد حياته، “أكثر من وردة عطرة تفوح رحيقا خاصا في بيت والديْه، قبل أن يرحل تاركا وراءه أثر الفراشة”، سجل الشاب ذاته الذي لا يبعد منزل أسرته عن المنزل السابق لأسرة ريان سوى عشرات الأمتار.
وتابع الثلاثيني، في معرض حديثه مع طاقم هسبريس، أن “صورة ريان أضحت لا تُفارقه”، كلما تذكر الطفل الصغير وهو يلعب ببراءة الصغار أمام بيت والديه، قبل أن ينتشر خبر سقوطه في ثقب مائي عميق، مع حلول أول أيام شهر فبراير 2022. لمْ يَكُنِ حافِرُ ذاك الثقب المائي (المعروف في أوساط المغاربة بـ’الصوندا’) سوى الأب المفجوع في فلذة كبده.
“الطفل الأيقونة”
لا يزال يوسف الشطون، فاعل مدني وناشط محلي بمنطقة “باب برد”، التي تعد أقربَ الجماعات القروية إلى “قرية ريان”، تحت هول الصدمة مسترجعا بين عينيْه شريط الأحداث بحكم معايشته لها منذ التدوينات الأولى التي تداولت الحدث، العام الماضي، على موقع التواصل “فيسبوك”، حينما اكتشفت العائلة والجيران أن “ريان سقط في الثقب المائي ولم يُختطَف”، كما ساد الاعتقاد بذلك حينها.
وفي حديث مع جريدة هسبريس، أكد الشطون أنه “مهما استخدم من كلمات، فهي لن تُسعفه في وصف “هول المتابعة والتغطية والاهتمام الإعلامي والشعبي والرسمي الذي رافق الحادث وتفاصيله طيلة أيام”، مسجلا، في نبرة أسى وحزن، أنه “رغم ألم الرحيل وانتشاله ميتا، فإنه يستحيل نسيان ريان.. ريان سيظل، دائما، هو ريان.. رمزا للمنطقة والمغاربة والعالم أجمع”.
“بفضل حادث ريان، أصبح العالم كله يعرف إقليم شفشاون، ليس سياحيا فقط كما هو معهود؛ وإنما بمختلف تضاريسه وقُراه وجماعاته التي لا يزال بعض دواويرها يقاسي مشاكل التزود بخدمات أساسية لا غنى عنها”، أكد الناشط المحلي بباب برد لهسبريس، موردا أن “النقص ما زال لصيقَ خدمات الكهرباء والماء والصحة والطرق، فضلا عن إشكالية بُعد المدارس في بعض المستويات التعليمية”.
“صار دوار إغران مَقْصِدَ كبريات وسائل الإعلام الوطنية والدولية، ومَهْوى قلوب وعقول ملايين البشر عبر العالم”، أكد المتحدث مسجلا أن ساكنة الدوار تفاجأت كثيرا من المتابعة غير المسبوقة التي جعل اسم دوار ‘إغران’ جاريا على كل لسان. “كانت أياما قاسية على الجميع هنا، لاسيما الأطفال والنساء، بينما نزيف هجرة الشباب لا يتوقف هنا”، أوضح الفاعل نفسه.
من جانبها، أكدت مصادر محلية من المنطقة تحدثت إليها جريدة هسبريس أن “حال أسرة ريان يبدو أنه قد تحسن تدريجيا، على الرغم من فقدان الابن ريان”، مؤكدة أن “الأسرة لم تعُد تقْوَى على البقاء في القرية ذاتها التي شهدت مأساة طفلهم؛ ما دفعها إلى الانتقال قصد الاستقرار بمدينة تطوان”.
شهادات تسترجع “الذكرى الأليمة”
الفاتح من فبراير 2022 سيظل يوما راسخا في أذهان المغاربة كافة، والمهتمين بحال الطفولة وطنيا وعالميا؛ فقد انقلبت في هذا التاريخ، فجأة، حياة الأسرة الصغيرة رأسا على عَقِب، ومعها حياة الجيران، بل حياة جميع المغاربة؛ وكأن العالق في الثقب المائي الضيق كان ابنَ المغاربة جميعا، وكأن العالم كله كان عالقا في تلك الحفرة.
بعد مرور عام على الحدث المأساوي، يبدو منزل عائلة ريان بدوار إغران، وفق ما عاينته كاميرا هسبريس، مهجورا خاويا على عروشه إلا من بقايـا وآثار ما زالت شاهدة على ملحمة إنقاذه، التي شدت أنظار شخصيات مرموقة عبر العالم، عزت في وفاة ريان، كما شُدت إليها الرحال طيلة خمسة أيام متواصلة من عمل عناصر الإنقاذ والإسعاف، والقوات العمومية، فضلا عن جهود مختصينَ في الحفر وعلوم الجيولوجيا.
بدورها، بدَت الطريق “الضيقة” التي أوصلتنا إلى موقع الثقب المائي الشهير، وكأنها ظلت على حالها، ما عدا خضوعها لعمليات حفر وأشغال توسعة وإصلاح قصد تعبيدها.
“صوتُ عائلة ريان (رحمه الله) لم يكن ليصل إلى مختلف بيوت العالَم، لولَا مجهوداتُ صحافيين وطواقم إعلامية وَصَلَتِ الليل بالنهار مُرابِطَة بالمكان”، قال فتح الله بوزيدي، صحافي في قناة “ميدي1 تيفي”، ضمن شهادة أدلى بها لهسبريس بمناسبة مرور عام على الحدث الذي قام بالتنقل شخصيا لتغطيته.
وأكد بوزيدي أن “الحادث أعاد إلى الأذهان ليس فقط مآسي أطفال مغاربة، بل ما يعيشه الأطفال المكلومون في بؤر توتر عبر العالم وفي دول بعينها ما زالت تقاسي ويلات الحروب والأزمات”، خالصا: “أكيدٌ أنها تجربة قاسية؛ لكن اكتسبنا منها الكثير على مستوى تحري الدقة والمصداقية كإعلاميين، بالرغم من المشاعر السلبية والحزن الدفين الذي شاركناه مع ذوي ريان”.
“قصة ريان جعلتنا نستحضر آلام هؤلاء الأطفال حول العالم. ولعل أبرز ما ميز هذه القضية هي مشاعر الإنسانية التي حركت دواخلنا”، خلص الصحافي الذي كان شاهدا على أطوار الحدث.
“ريان يحرك البرلمان”
قبل حلول الذكرى الأولى للمأساة التي أثارت الانتباه إلى خطر “الآبار العشوائية” بالمناطق النائية، سارع مجلس المستشارين، خلال جلسة عامة تشريعية عقدها يناير الماضي، إلى المصادقة بالإجماع على مقترح قانون بتغيير وتتميم القانون رقم 36.15 المتعلق بالماء، كما ورد من مجلس النواب.
هذه المبادرة التشريعية، التي قدمها الفريق الاشتراكي، استهدفت تجريم هذا النوع من الآبار و”إضافة شروط السلامة إلى أوراش حفر الآبار وإنجاز الأثقاب سواء في مرحلة الإنجاز أو الاستغلال أو بعد التوقف عن الاستغلال”؛ فيما استحسَنها نزار بركة، وزير التجهيز والماء، قائلا: “الواقعة المؤلمة التي شهدتها بلادنا بداية السنة الفارطة المتعلقة بوفاة الطفل ريان، بعد سقوطه في ثقب مائي غير متوفر على شروط السلامة، هي ما جعلتنا جميعا أمام مسؤولية وطنية تجاه عدم تكرار مثل هذه الحوادث ومحاولة البحث عن حلول جذرية لها”.
كما سعى مقترح القانون إلى سن مقتضيات قانونية للحد من حوادث السقوط في الأثقاب المائية، من خلال “الإلزام تحت طائلة أداء غرامات مالية مهمة، كل من لم يعمل أثناء قيامه بأشغال حفر بئر أو إنجاز ثقب مائي أو أثناء استغلال مياههما أو بعد الاستغناء عن استغلالهما، على إنجاز تجهيزات السلامة التي من شأنها الوقاية من الأخطار المرتبطة بأشغال الحفر وبأعمال الاستغلال وبالتخلي عن البئر أو الثقب، دون القيام بتوفير شروط السلامة”.
وشدد الفريق الاشتراكي على أن مقترحه التشريعي “يهدف إلى عدم تكرار معاناة ومأساة الطفل ريان”، معتبرا أن الاستغلال المعقلن للآبار يقتضي تحرك الحكومة والجماعات الترابية في سياق حملة وطنية لإغلاق جميع الأثقاب والآبار المهجورة وغير المستعملة، بما عدم تعرض سلامة الأشخاص للخطر”.
وكان وزير التجهيز والماء قد أدلى، خلال اجتماع سابق للجنة البنيات الأساسية، بمعطيات صادمة تفيد بأن عدد الآبار العشوائية والأثقاب غير المغطاة في المغرب التي تم إحصاؤها بلغ 28600 بئر وثقب، مشيرا إلى أن 91 في المائة منها غير مرخصة”.
وبحلول يونيو 2022، وافقت الحكومة على مقترح القانون ذاته الذي نص على عقوبات حبسية في حق كل من قام بأشغال حفر بئر أو ثقب مائي أو تجويفات أو ممر تحت أرضي أو نفق أو تثبيت أنبوب أو قناة دون اتخاذ الاحتياطات والإشارات المعتادة أو المقررة قانونا في الأوراش بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة نافذة من خمسة آلاف إلى خمسة عشر ألف درهم، أو إحدى هاتين العقوبتين فقط.
“نهاية سعيدة لقصة مفجعة”
قصة ريان، التي أحزنت المعمور، أبَت إلا أن تخلص إلى “نهايات سعيدة”؛ طبقا للمثل القائل: “في كل محنة منحة”.
وبينما كنا بصدد إنهاء العمل على الروبورتاج المتعلق بذكرى مرور عام على فاجعة ريان، انتهى إلى علمنا خبرُ وضع أم الطفل الراحل لمولودٍ جديد ذكر، في عملية استنفرت مصالح المركز الاستشفائي الإقليمي سانية الرمل بمدينة تطوان، الخميس 2 فبراير 2023، مواردها الطبية والتمريضية، لتهيئة كل الظروف لمرور عملية الوضع في ظروف جيدة؛ وهو ما أكده مدير المستشفى في حديث مع هسبريس.
وجوابا عن سؤال لهسبريس بخصوص اختيار اسم المولود الجديد، أكد والد الطفل الراحل ريان أن “هناك إجماعا واتفاقا أوليا حول اسم “ساجد”، واصفا تزامُن موعد الولادة مع الذكرى الأولى لفاجعة رحيل ريان بـ”المعجزة الإلهية”. فيما بدت معالم الفرح والانشراح بادية على أسرة الطفل.
وأشاد والد ريان بالعناية الكبيرة التي حظيت بها زوجته، لتمر عملية وضع مولودهما في ظروف جيدة وآمنة، مقدما شكره إلى كافة المغاربة على تضامنهم وتعاطفهم، وإلى كل أعضاء الطاقم الطبي والتمريضي على مجهوداتهم.