القضــاء في صدر الإسلام وبعده

القضــاء في صدر الإسلام وبعده



 

كان تنظيم العرب للقضاء تنظيما عفويا وضعوه على غير مثال سبق بما أوحت به شريعتهم الإسلامية الحنيفية وبما قضت به حاجاتهم وضروراتهم وبما أبدعته سلائقهم وفطرتهم.


وفي يقيني ان مؤسسة القضاء في الإسلام هي المؤسسة الوحيدة التي لم تتأثر بأي عامل خارجي حينما وقع التمازج بين العرب والفرس والروم والهند والترك والصقالبة وغيرهم. فلقد أثر العرب في هذه الأمم وتأثروا بها في كل مرافق الحياة العامة والخاصة إلا القضاء فإنه بقي إسلاميا عربيا محضا، لم تـَشُبْه أية شائبة مما عند الأمم الأخرى. ومرد ذلك إلى أن مصادره كانت عربية خالصة فلم يكن من سبيل إلى تسرب أي عنصر أجنبي إليه.


 

وإذا كان بعض الباحثين المحققين قد أشار إلى أن العرب قد وجدوا في بلاد الشام قضاء رومانيا قد سبق مجيئهم بقرون وانهم قد أخذوا عنه، فإن هذا البعض لم يؤيد رأيه بأي دليل وإنما بقي في حدود الرأي المجرد خلافا للمنهج السليم في التحقيق.


ومن الباحثين المحققين أيضا من ذهب إلى أن العرب قد اقتبسوا عن الفرس نظام “قضاء القضاة” الذي عرف باسم موبذ موبذان” مستندين في ذلك إلى إشارة غير واضحة في كتاب وحيد مجهول المؤلف هو كتاب (التاج في أخلاق الملوك) الذي خدع به شيخ العروبة أحمد زكي باشا فحققه ونشره ونسبه إلى الجاحظ ثم جاء العلماء من بعده فأثبتوا أن الكتاب منحول لمعلم العقل والأدب.


 

 

ولو صح أن العرب أخذوا عن الفرس مقام “قاضي القضاة” لما غير ذلك في رأينا شيئا لأنهم أخذوا شكلا من الأشكال ولم يأخذوا شريعة ولا أصولا ولا رسما ولا قاعدة ولا شيئا يشبه هذا كله.


وضعت مصادر القضاء أيام الرسول الأعظم فكانت تلك المصادر ثلاثة: الكتاب والسنة والاجتهاد. وكان القضاة والمتقاضون يرون في التقاضي تفريقا بين الحلال والحرام أكثر مما كانوا يرون وصولا إلى الحق وعزوفا عن الباطل. ولهذا فإن الهادي إلى الحلال والحرام هو احكام الشريعة المتمثلة في الكتاب والسنة قبل كل شيء.


 

 

ولقد نشأ عن هذا عزوف كثير من الأئمة عن تولي القضاء لأن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تحدثت عن الإحفاء أي الخطأ ولاسيما الإحفاء العمد كثيرة ولأن هؤلاء لم ينظروا إلى القضاء على أنه منصب من مناصب الدولة يجتهد فيه المرء جهد طاقته وإنما نظروا إليه على أنه تهلكة قد تؤدي بصاحبها إلى النار. وكتب التاريخ تحدثنا عن رجل كأبي حنيفة النعمان امتنع عن القضاء وتحمل في سبيل امتناعه الأذى. كما تحدثنا كتب التاريخ عن انصياع الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة للقاضي ومثولهم بين يديه سواسية مع خصومهم من أفراد الرعية كما فعل عليّ وهو خليفة أمام قاضيه شريح وكما صنع هشام بن عبد الملك الأموي مع صاحب حرسه أمام القاضي في دار الخلافة. أما عمر بن عبد العزيز فقد توجع مع خصمه إلى مجلس القاضي فساوى بينهما في كل شيء وقضى للرجل على عمر. كذلك تحاكم المأمون بين يدي القاضي يحيى بن أكتم وتحاكم إبراهيم بن المهدي مع بختيشوع الطبيب عند القاضي أحمد بن أبي دؤاد. كان مرد هذا كله إلى الخوف من الله، لأن القاضي إنما يحكم بما أنزل الله “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”.صدق الله العظيم [المائدة:47]



 

على أن هذه الشروط التي اشترطها الإسلام في القاضي وهي الإحاطة بالكتاب وبالسنة والقدرة على الاجتهاد ترفع القاضي إلى أعلى مستوى من الناحية الثقافية والعقلية. فالقرآن الكريم كتاب الله المعجز لا يقوى على الإحاطة به إلا من عرف أسباب التنزيل ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وإلا من عرف أسرار العربية والعلم بها وحقيقتها ومجازها، وإلا من ملك الحافظة القوية التي تستحضر الآية الملائمة للحكم الشرعي في حينها. كذلك السنة الشريفة فإنها المصدر الثاني من مصادر القضاء من أحاط بها أحاط بكلام أبلغ العرب.


أما الاجتهاد فمرتبة لا يجوز أن يدعيها ولا أن يتصدى لها إلا من جمع الشرطين الأولين: الإحاطة بالكتاب وبالسنة. أضف إلى ذلك أن الاجتهاد موهبة لا يلقاها إلا الخاصة من الناس لأنها تستند قبل كل شيء إلى الاستنباط والقياس وتقريب النظير من النظير ولهذا فقد تجد عالما بالكتاب والسنة، ولكنه ليس أهلا للاجتهاد. لأن الاجتهاد عقل قبل أن يكون علما وقبل أن يكون حفظا ولأن الاجتهاد تبصر في الأمور. ولهذا قالوا عن إمامين عظيمين هما شريح ومسروق القولة المشهورة: “كان مسروق أعلم بالفتيا من شريح، وكان شريح أبصر منه بالقضاء”. فالعلم شيء والبصر شيء آخر.


ولقد دعت ضرورات المجتمع الإسلامي إلى توزيع الاختصاص بين القضاة أو إلى إحداث قضاء خاص. فأحدث الرسول قضاء الجند يوم بعث معاذا قاضيا للجند إلى اليمن وبعث معه عليا قاضيا. ذلك بأن الشريعة قد تضمنت احكاما للحرب والسلم فلابد من قاض يفصل في الخلافات التي تقع في الحرب بين المسلمين وبين غيرهم من المحاربين. وأحدث معاوية “النظر في الجراح” وهو ما نسميه في هذه الأيام “الجنح أي الجرائم الخفيفة”. وأحدث عثمان قضاء الأحداث بمعنى الجرائم الكبرى ذات العقوبات الإرهابية الشديدة وهي الجنايات فولى أبا موسى الأشعري على صلاة البصرة وعلى احداثها ثم أنشأ قضاء الأحباس، أي الأوقاف أيام هشام، وقد تولاها القاضي توبة بن نمر، وأحدث الأندلسيون قضاء الرد، وهو القاضي الذي ينظر في القضايا التي يتخلى عنها قاضيها لسبب من الأسباب. فلما كان القرن الثامن رأينا نوعا جديدا اسمه “قضاء البـَر” يعني القضاء المتنقل حيث يذهب القاضي إلى المتقاضين وهم في منازلهم من البادية. ونشأ في القرن نفسه “قضاء الركب” وهو القضاء الذي يرافق الأسواق التجارية المتنقلة، أعني القوافل. وكان إلى جانب هذا كله قضاء المظالم، وهو القضاء الإداري بمعناه الشامل، وكان الخليفة رئيسا له: يفصل في القضايا التي تقام على الدولة أو منها على عمالها. ووجدت الحسبة والشرطة وهما نوعان من القضاء فريدان. كان أولهما أمرا بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيا عن المنكر إذا ظهر فعله. وكان ثانيهما الشرطة المطاردة لأهل البغي في المدن وخارجها.



 

هذا بعض ما ابتدعه العرب من أساليب القضاء على غير مثال احتذوه ولا نهج اقتبسوه. وفي الكثير منه ما تباهى به أعرق الأمم المعاصرة على أنه من مولداتها ومن ثمار حضاراتها وقد عرفه العرب قبل ألف من السنين ابتغاء إنصاف المتقاضين وخوفا من رب العالمين.


*..-*..-*..-*..-*

والله الموفق

2016-10-10

محمد الشودري

 

 

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً