“المفضل البناينو” الشفشاوني يروي ملاحم التحرير والمقاومة المسلّحة

“المفضل البناينو” الشفشاوني يروي ملاحم التحرير والمقاومة المسلّحة

 

يتناول الأكاديمي المغربي المرموق الراحل الأستاذ محمد أبو طالب في كتاب جماعيّ صادر عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يسلّط الضّوء على أشغال ندوة علميّة (نُظّمت أيام 28 – 30 نونبر 1990 بكليّة الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش)، موسومة بـ”المقاومة المسلحة المغربية 1900 – 1934، (يتناول) في مقالة مُحكمة ورصينة وبتفصيل دقيق وشيّق شخصية المُقاوم الحاج المفضل بن محمد بن عبد الكريم البناينو الشفشاوني (1897 – 1990 حسب ما ذكره مصدر من عائلته)، الذي ينتمي إلى أسرة أندلسية استقرّت بمدينة شفشاون، حيث يوجد زقاق يعرف بعقبة البناينو.



وسجّل أبو طالب في مذكّراته: “ما إن تأكدت من دور البناينو التاريخي، حتى أخذت أسجّل له ذكرياته وتجاربه أيّام الكفاح إلى جانب البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي. ومما زاد اهتمامي إصرار الزّميل جرمان عيّاش على اللقاء به، مستغرباً علاقتي بآخر من بقي على قيد الحياة ممّن عايشوا الفترة التي كان يهتمّ بها كثيراً. وذات يوم أثناء زيارة البناينو لي بالرباط، ناديت على الزّميل عيّاش الذي أسرع بمسجلته وأخذ يدقّق معه جوانب من كتابه حول الرّيف. وبوفاة البناينو، يكون آخر شاهد على ملحمة قدّمت نموذجاً لأشهر حركات التحرير وحرب العصابات في العالم المعاصر”.


الخروج للميدان


يحكي بوطالب أن قصة المفضل البناينو تبدأ في وقت وجيز كان فيه المغرب ينعت بكونه “مقبرة شباب إسبانيا”، حينما كان المستعمر يواجه معارضات قوية لمحاولة فرض سلطته على القبائل المجاهدة بالشمال. وقبل اندلاع هذه العمليات، كان البناينو يشتغل بالفلاحة وتجارة المواشي وكذا الأسلحة التي كانت متوفرة عند الكثيرين، حيث كان ثمن البندقيّة الواحدة يبلغ أربعمائة ريال بدار بن قريش وخمسين فقط في الأخماس.



احتلال شفشاون


ويواصل المتحدّث نفسه بأنّه بمجرّد تنفيذ الجنرال بيرنكير BERENGUER لاحتلال منطقة شفشاون خريف 1920 مع دخول المدينة في 14 أكتوبر، إذ لم تكن آنذاك خاضعة لسلطة الجيش الإسباني، أخذ البناينو يتحرّك في سلسلة من عمليات “البارود” دامت أزيد من أربع سنوات.. وكانت أول عمليّة قام بها من غاروزم ليلة دخول الإسبان بالذّات، إذ فاجأ فرقة حراسة لاذ أعضاؤها بالفرار؛ ومن هناك انتقل إلى “دمنة المخزن” بقلب المدينة، حيث قضى على ثلاثة أشخاص وعدد من الخيل.. وفي الفترة نفسها ألقت جماعته المكوّنة من ثمانية أشخاص القبض على مجموعة من المتعاونين مع الإسبان..


انتظام عمليات الجهاد


ولما أقام البناينو مقر قيادته بغاروزم، شرع في عمليات محاصرة القوافل الوافدة بالمؤونة من بني حسان إلى شفشاون، ومن مبادراته عملية دامت سنة كاملة، وذلك بإرسال خمسين مجاهداً كل يوم إلى رأس الجبل المطلّ على مدينة شفشاون بالتناوب، قصد إطلاق النّار على جيش الاحتلال.. ومع استقرار التنظيمات الهجومية، استعدّ فريقه للقيام بهجوم على مدينة شفشاون، فكانت الانطلاقة من الدردارة بقبيلة الأخماس في اتجاه المعسكر الإسباني بعقبة القُلّة، بين بني يسف وبني زكار. وإثر معركة حامية الوطيس مات فيها العديد من الخونة، وكذا ما لا يقلّ عن سبعمائة إسباني، استولى المجاهدون على عتاد العدوّ الذي لم يبق منه إلا ثلاثة أشخاص، من بينهم طبيب يقول البناينو إنّه باعه بمائتي ريال حسني. كان ذلك أواخر غشت من سنة 1921، ولم تسترجع القوات الإسبانية نفسها إلا في شهر دجنبر.



معارك مختلفة وتضايق الإسبان


ومن أهم العمليات تلك التي أنجزت بمنزل البناينو بالصبّانين في شفشاون – يستطرد بوطالب – ثم معركة أكرّاط ومعركة وفاء الدشر ومعركة دار الراعي التي أنزل فيها العدوّ أزيد من مائة قنبلة مسمومة تسبّبت في إحراق ما كان يعترض طريقها وتطلق رائحة كريهة. وهناك معركة مرابطش ومعركة مشكرالة التي شارك فيها مبعوث الخطابي إدريس خوجة؛ ومعركة تزرار ببني ورياغل ومعركة عين الرّامي ومعركة دار الزلال بوغابش وعمليّة دار العزف، وكلّها عمليات يذكر فيها البناينو العديد من القتلى، واصفاً بعضها بأنّ الدّم بها لم يكن يلتقي إلا بالدّم.. وكان يسلّم الأسرى للخطابي عن طريق المكّي الوزّاني مقابل مائة ريال للأسير الواحد.



تفوّق عسكري


ويؤكد الباحث المغربي أنه بعد أن استطاع ابن عبد الكريم أن يتغلّب على معظم القبائل تقريباً، بعد خوض معركة دار الرّاعي، أوفد شقيقه امحمد إلى البناينو ليعرض عليه الالتحاق بمركز فراحة بقبيلة اغزاوة وشغل منصب قائد على قبائل بني زكّار وبني يسّف وسماته وبني عروس وأهل سريف وبني كرفط وبني يذر، باستثناء قبيلتي بني منصور وجبل الحبيب اللتين عيّن الزلال قائداً عليهما. وجاءت فترة فتور يفسّرها البناينو بعدم تجربة القائد بوذرع الذي نصّبه الخطابي، والذي تسبّب في استشهاد ثلاثمائة مجاهد، معتبراً إيّاه بمثابة عرقلة للحركة الريفيّة.


وبعد ذلك أسندت إلى البناينو مهمة محاصرة مدينة شفشاون إلى أن أرغم الإسبان على الشّروع في الخروج منها في شتنبر ومغادرتها نهائياً في نونبر 1924، ما أدّى إلى انهزام القائد العسكري الإسباني كاسترو خيرونا ودخول الخطابي الذي تعرض لقصف إسباني فرنسي. وبهذه المناسبة يشيد البناينو بمقدرة الجنود الفرنسيين الذين كان من بينهم سنغاليون يحفظون القرآن، كما ينوّه باستماتة الإسبان الذين يواجهون الموت بهتافات VIVA.



باشوية شفشاون


وإثر ذلك عيّن الخطابي البناينو باشا على المدينة وسنّه يقارب الأربعين، وبمجرّد استلامه السلطة أخذ ينتقم ممّن كان يغضبه تعاملهم مع المستعمر، حيث عوّض عدداً من المسؤولين بأبناء أسر من أصل ريفي، الأمر الذي أثار استياءً كبيراً، وما كان يسعه إلا أن يقدّم استقالته… وبعد التخلّي عن الباشويّة استأنف البناينو نشاطه الميداني بمواجهة قوّة الاحتلال وغير ذلك، كما كلفه الخطابي بقيادة عملية عسكرية بقبيلة الأخماس.


الاحتلال الثاني لشفشاون


ويختتم الأستاذ محمد بوطالب حديثه حول المقاومة المسلّحة للمقاوم البناينو بالقول: “ومع استمرار المعارك وحبك المكائد لإضعاف قوى المجاهدين، لم تتمكّن القوات الإسبانية من دخول شفشاون من جديد واحتلالها بصفة رسميّة إلا في 25 أغسطس من سنة 1926. ولم يمنع توقّف القتال البناينو من القيام بعمليات انفرادية مضايقة للإسبان الذين كانوا يحاولون إلقاء القبض عليه، ما اضطرّه إلى الهروب إلى مدينة طنجة، ليعود منها إلى شفشاون، بعد إعلان استقلال المغرب. ويشير هنا الأستاذ عبد السلام الحضري إلى أن البناينو كان الشفشاوني الوحيد الذي لم يعش تحت الحكم الإسباني”.

 

 

الشاون بريس/المصدر

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً