حكايات الجنود ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية بشفشاون
في فضاء وطاء الحمام يجلس شيوخ – ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية – بعد أن عادوا من هذه الحرب معطوبين منذ عدة عقود وقد لفهم الأسى والحزن وقهرهم الزمن. لا ترى سوى وجوه منكمشة شاحبة، وعيون غائرة خائفة غادرها الاطمئنان والسكينة، ولا تسمع سوى آهات وتنهدات خافتة تعكس ما عاناه هؤلاء من عذاب في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939م)، حين جندهم الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” ليشاركوا في هذه الحرب ضد الجمهوريين الشيوعيين بعد الانقلاب الذي قام به “فرانكو” على الحكومة الجمهورية التي كانت مشكلة من ائتلاف الشيوعيين والفوضويين والاشتراكيين بدعم من موسوليني وهتلر.
يجلسون وسط الساحة تحت تلك الشجرة الكبيرة ليتبادلوا حكايات بطولاتهم وشجاعتهم وبسالتهم في هذه الحرب التي كانوا يدافعون فيها عن قضية غير قضيتهم، في وطن غير وطنهم متناسين عاهاتهم وأعطابهم الجسدية. لم يسلم منهم إلا القليل. لقد بترت أيديهم أو أرجلهم أو فقدوا إحدى أعينهم، أو أصيبوا بتشوهات كثيرة في وجههم وأجساهم. كانوا يتمنون الموت مثل باقي الجنود المغاربة الذين سقطوا في ميدان الحرب مقتولين أو محروقين أو مذبوحين على أن يعودوا إلى مدنهم وقراهم على هذه الحالة المزرية من التشوهات الخلقية والنفسية. لقد مرت سنوات طويلة على هذه الحرب وليس لهم من متاع الدنيا سوى معاش هزيل يكاد لا يغطي حاجياتهم اليومية ويجعلهم يعيشون في فقر دائم مدقع.
يحكي أحد الجنود أنه بقي ثلاثة أيام بلياليها بدون أكل أو شراب في منطقة جبلية باردة مكسوة بالثلج في شمال إسبانيا. ولما اشتد به الجوع والعطش، ظل يبحث عن شيء يأكله، فلمح عن بعد جثة كاد الثلج أن يغطيها، ولما اقترب منها وجد أنها جثة مضرجة بالدماء لأحد الجنود الشيوعيين، فأخذ يفتش في جيوبه، إلى أن وجد قطعة من الخبز وقد شبعت من دم الجندي فغدت كتلة من الدم لا قطعة من الخبز، فأخذ يلتهمها بشكل جنوني؛ بحزن شديد، يحكي هذا الجندي أن دم الجندي النصراني دخل جسده ليختلط بدمه، وأن هذا عار ما زال يقض مضجعه كلما تذكر هذه الواقعة وكيف تمكن من الاستمرار في الحياة ليعيش بفضل دم الجندي النصراني الذي اختلط بكسرة الخبز.
ويحكي آخر أن الإسبانيين كانوا يسمونهم قوات “المورو”، وكان المغاربة في قرارة أنفسهم لا يحبون هذه التسمية لما فيها من تحقير، كما كانو يطلقون عليهم لقب “المرتزقة” حيث كان ذلك كافيا للنيل من كرامتهم وإحساسهم بأنهم إنما جاؤوا إلى إسبانيا للاسترزاق لكونهم يحاربون لأجل قضية لا تهمهم.
ويحكي آخر كيف كانوا يباغتون العدو ليلا فيقتلون الحراس واحدا واحدا ثم يهجمون على فيلق بكامله فيقضون عليه، أو يباغتون الفاليق الفرنسية والفرق البريطانية والفرق الدولية التي كانت متواجدة هنالك، ويظهرون شجاعة “المورو” التي لا مثيل لها، إذ يندفعون كالسيل المتدفق غير عابئين بالموت، فيعلمون على ضرب قوات هذه الفرق بكل ما أوتوا من قوة، فيقتلون منهم الكثير. أما من يبقى على قيد الحياة من هؤلاء الجنود والضباط فيكون مصيره الأسر. لقد كان جندي واحد من “المورو” يثير الرعب في مائة جندي من جنود الشيوعيين.
ويقول جندي مبتور الرجل اليمنى وهو يتكئ على عكازه الخشبي الذي لف على يده قطعة مربوطة بقطعة من القماش حتى لا يؤذيه احتكاكه بإبطه أثناء المشي، أن الإسبان كانوا يشوهون سمعة الجنود المغاربة بترويج أخبار كثيرة عنهم وكأنهم حيوانات أو وحوش مفترسة، كتلك الحكايات عن السلب والنهب، وتجريد المدنين من ممتلكاتهم، والأعمال الوحشية التي تصدر عنهم من تنكيل بالأسرى والقتلى وبتر الأعضاء وإخضاء الأجسام، وقد تناسى الإسبان – خلال حرب الريف – كيف كانوا ينكلون بالمغاربة الريفيين بقطع آذانهم ورؤوسهم وتعليقا ليزينوا بها الجدران خلال الليل ليراها الآخرون في الصباح، وكيف كانوا يغتصبون النساء بحضور ذويهم الذين يتعرضون مباشرة للذبح على يد الجنود الإسبان المتوحشين. ويتذكر ضحايا حرب فرانكو المجاهد الأكبر محمدا بن عبد الكريم الخطابي الذي سحق دولتين عظيمتين: فرنسا وإسبانيا وانتصر عليهما في معركة “أنوال” الخالدة سنة 1921م. كان عليهم أن ينتقموا لشرفهم وكرامتهم وإنسانيتهم المهانة بالانغماس في الحرب بكل بسالة وشجاعة مما أثار الرعب في صفوف الشيوعيين. ومن القضايا الغريبة أنه حين كان أحد الجنود المغاربة يسقط ميتا برصاص العدو، وفي وقت الهدنة، يقترب منه الجنود الإسبان لتعرية رأسه حتى يتأكدوا من وجود قرنين يحملهما في رأسه بعد أن شاع بين الإسبان أن للجنود المغاربة قرونا تشبه قرون التيوس، ولذلك كانوا يخفونها بقب الجلباب، مما أشاع الرعب والهلع في صفوفهم من هؤلاء المغاربة “الموروس” الذين هجموا عليهم من شمال إفريقيا، من بلد اسمه “المغرب الأقصى”.
حكايات البطولات لا تنقطع ولا تنتهي. كل واحد من هؤلاء الجنود الضحايا يتباهى بأنه البلاء الحسن في هذه الحرب، بحكي هؤلاء الجنود كيف جرحوا، زكيف تعفنت أعضائهم المصابة، وكيف وجدوا أنفسهم – ذات يوم – مبتوري الأطراف أو فاقدين لأعينهم. يواسي بعضهم بعضا.
وعلى الرغم من شجاعتهم وبطولاتهم، فإن تلك الحرب قد تركت في أنفسهم آثارا لا تنسى، وآلاما دفينة لا يمكن إلا أن تلحظها في نظراتهم الحزينة وأصواتهم الخافتة الضعيفة بعد أن تخلى عنهم “فرانكو” عند انتهاء الحرب التي يشهد المؤرخون أن حقق فيها النصر على الشيوعيين بفضل بسالة الجنود المغاربة. لقد أعادهم فرانكو إلى بلادهم معطوبين عاجزين بعد أن كانوا أشداء يثيرون الرعب في صفوف عدوهم. لم يبق لهم من ذلك المجد الزائف الزائل سوى ذكريات يلوكونها صباح مساء، يحكونها ويرددونها كل يوم وكأنها إسطوانة محفورة تدور حول نفسها لتكرر نفس الكلام. هؤلاء الضحايا لا يشعر بهم أحد، ولا يلقون أي اهتمام أو مواساة؛ هكذا يقضون أيامهم مجترين تلك الوقائع الأليمة التي بقيت راسخة في ذاكرتهم وكأنها شريط سينمائي مرعب.
الكتاب: شفشاون ذاكرة المكان
الكاتب: عبد الواحد التهامي العلمي
المركز العربي للدراسات الغربية
الشاون بريس/يتبع…