حكاية “بوسابة” الرجل المتسول في شفشاون
“بوسابة” لقب أحد المتسولين الذين عاشوا بشفشاون. حين ينظر إليه المرء من بعد وهو جالس، يخيل إليه أنه كومة كبيرة من الصوف تكاد لفرط تجمعها أن تشكل شكلا مستديرا، غير أن ملامحه الحقيقية لا يمكن تمييزها عن كثب.
كان يبدو ذا هيكل عظيم، وقوام فارع الطول، يلبس جلبابين من الصوف؛ الداخلي أبيض اللون لكنه فقد لونه الأصلي من كثرة الأوساخ، والثاني جلباب بني اللون غيرت أشعة الشمس لونه أصلي. يمسك بعكازه الخشبي خوفا من أن ينزعه أحد من يده. يلف فوق رأسه عمامة بيضاء، لا يتذكر هذا الشيخ البائس كم مره عليه من سنوات وهي على رأسه، لا ينزعها أبدا إلا عندما يدخل دكان الحلاقة. وكم كان الحلاق الطيب يشتكي من عمامة بوسابة ويلومه على عدم تنظيفها. عيناه صغيرتان غائرتان بنيتا اللون، غير أن وجهه يكاد يخلو من التجاعيد وكأن فعل الزمن لم يصبه في جسده الا قليلا اصابه الشيخ لا احد يجزم بمعرفه السن سنه الحقيقه جسده إلا قليلا. “بوسابة” شيخ لا أحد يجزم بمعرفة سنه الحقيقي. جسده النحيل وابتسامته المتواصلة تجعلانه شابا في سن الشيخوخة على الرغم من لحيته البيضاء المقصوصة بعناية تامة؛ ذلك أن أحد الحلاقين كان يعطف عليه مرة في كل شهر فيحلق له رأسه بموسى الحلاقة، ويرتب شعيرات لحيته التي غزاها الشيب ولم يعد فيها مكان لشعرة سوداء. كان الحلاق يمازحه ناظرا في وجوه بعض الزبناء الموجودين في الدكان ليسلي عنهم. هنا يبدأ المشهد الهزلي حين يطلب الحلاق من صاحبه بوسابة أن ينظر وجهه في المرآة ثم يشرع في إطراء وسامته وأناقته، وتقريظ صفاتها الجسدية والخلقية، والتلميح إلى فحولته وشبابه على الرغم من بلوغه هذا السن، ثم بعد ذلك يأخذ في الإلحاح عليه بضرورة البحث عن زوجة ثالثة، ويقترح عليه أسماء بعض النساء الأرامل أو المطلقات أو حتى بعض العازبات، فيضحك “بوسابة” من أعماق قلبه ويضحك الزبناء حتى يسمع الناس قهقهاتهم من الخارج.
ولفرط سذاجته يطلب من الحلاق ومن الزبناء الحاضرين في الدكان أن يساعدوه على جمع المهر لعروسه الجديدة! أخبار هذا الرجل متضاربة و متناقضة. يقال إنه كان يملك أراضي فلاحية في بلدخ، وعددا كبيرا من أشجار الزيتون والمواشي. ويشاع أيضا أنه كان من المجاهدين الذين انضموا إلى القبائل التي تصدت لدخول الاستعمار الإسباني لاحتلال شمال المغرب، وقاومته مقاومة شديدة. إلا أن ما نسج عنها من حكايات يفوق الخيال. لم يكن “بوسابة” رجلا عاديا حين وفد على شفشاون. كان يعيش على التسول هو وزوجته الأولى ثم بعد وفاتها كانت زوجته الثانية التي تزوجها زواجا عرفيا لعجزه عن أداء مبلغ المهر ترافقه أينما حل وارتحل. كثيرا ما كان يجلس في مدخل باب العين منتظرا صدقات المحسنين. بعض الناس حكموا عليه أنه شخص معتوه أو مجنون، أما الأطفال فكان لا ينجو من شيطنتهم وإذايتهم حين يختطفون منه السلة التي يجمع فيها حاجاته أو الصدقات التي يأخذها من الناس، أو حين يسرقون عكازه فينهض مهرولا ويجري وراءهم إلى أن يرمي له أحدهم بعكازه فيعود إلى مكانه وقد أجهده الجري وراء هؤلاء الشياطين، ثم لا تمر هنيهة حتى تهجم عليه جماعة أخرى من الأطفال فيرمونه بالأحجار فيشتاط بوسابة غضبا ويقفز من مكانه في حالة هستيرية ويأخذ يلوح بعكازه الخشبي في الهواء غير عابئ بالمارة الذين يمرون من باب العين، ويستمر على هذه الحالة ملوحا بعكازه والأطفال ينادونه من بعيد: “وابو سابة… وأبو نابة… وأبو نامة” وهم يقهقهون بالضحك ولا يتوقفون عنه إلا حين يزجرهم بعض المارة لتفريقهم ويتواعدونهم بالعقاب. إلا أنهم لا يلبثون أن يعودوا كانوا يستمتعون بتصرفاته وصرخاته وتلويحه بعكازه في الهواء، لا تثنيهم عن ذلك نصيحة ولا تهديد.
تتحدث حكايات كثيرة عن فحولة هذا الرجل وضخامة عضوه وشبقه الجنسي حتى إن إمرأة اسبانية أعجبت به، “بوسابة كانت له علاقة غرامية مع إمرأة اسبانية متزوجة… بوسابة كان مغريا جنسيا، طريقة معاملته للنساء تختلف عن طريقة معاملة سائر رجال أهل البلدة! صحيح، الأمر يثير الدهشة، ما أدهشني هو أن تختار امرأة إسبانية عشيقا من المتسولين. لا شك أنها قدمت له مبلغا ماليا مقابل الغشق والشبق المخيف! “.
اعتقل بوسابة بعد أن انتشر الخبر في المدينة ووصل إلى زوج الإسبانية الذي كان ضابطا في الجيش الإسباني، فأبلغ عن السلطات الإسبانية التي كانت تحكم مدينة شفشاون إبان عهد الحماية. اعتقل بوسابة واقتيد إلى مركز الشرطة،فتعرض الى٥ الاستنطاق، غير أنه أنكر ما فعل، وادعى أن ما قيل عنه كان مجرد إشاعات كاذبة.
ولم يعترف للبوليس الإسباني بما قام به مع زوجة الضابط، تعرض لأشكال وأنواع من التعذيب الجسدي والنفسي، ولكنه كان صلبا كالصخر؛ فكلما نزلت عليه اللكمات والركلات على جميع أنحاء جسده، أو ضرب بالسوط أو العصا على رجليه، أو أحرقت يده بأعقاب السجائر، أو تعرض للتعذيب بالكهرباء، أو ترك بدون أكل ولا شرب مدة أربعة أيام، إلا وزاد عناده وتقوت إرادته.
كان لا يريد على الأسئلة التي تنهال عليه من كل جانب. ظل صامتا صامدا على الرغم من التعذيب الوحشي. كان رجال البوليس الإسباني يتلذذون بصراخ بوسابة أثناء التعذيب، لكن المسكين كان يكتفي بالبكاء الصامت بعد استراحة قصيرة. قال له أحدهم “أيها المورو الحقير الوسخ، إن لم تعترف بما فعلت لتخرجن من المخفر جثة هامدة، ولنرمين بك في المزبلة. المزبلة أطهر منك أيها القذر!”. عند سماع “بوسابة” هذه الكلمات الجارحة، صاح في وجه الشرطي “لماذا لم تستدعوا المرأة الاسبانية لتدلي بأقوالها؟”. لم يكن رجال البوليس الإسباني ينتظرون منه طرح مثل هذا السؤال عليهم. لقد ورطهم بوسابة وجعلهم في وضع حرج. بقي السؤال معلقا بدون جواب. وبعد مدة طويلة صدرت أوامر بإطلاق سراح بوسابة وطوي الملف.
مثل هذه الحكايات التي كانت تروى عن مغامرته، كثيرا ما كانت مصدر متعة وتسلية عند بعض النساء اللواتي يساورهن الشعور ملتبس لا يجدن له تفسيرا عند سماع هذه الحكايات التي لا تخلو من تشويق وغرابة.
كان بوسابة إنسانا جائعا لا يشبع من تلبية غرائزه ولا يمل من المضاجعة، لا يعبأ بمكان أو زمان، يسكنه شيطان الجنس ويتسلط على جسده فيحتوي عقله وتفكيره، وينظر إلى كل الكائنات الحية بشهوة بهيمية؛ فهو مشغول دائما بتلك العصا التي كلما تحسسها بأصابعه وجدها صلبة تطلب الارتواء. البغلة ولذتها العارمة تزيد في شبق هذا الرجل حين يختلي بها ويلمس جسدها الأملس “كانت ألذ خلوة… خلوة ينفذ فيها الامتطاء، امتطاء بغلة… كان يلذ له امتطاءها…. كان يستطيع فعل ذلك دون تدمر أو كلل… كانت” البغلة” منساقة إلى حاشية الصخرة… كان ما بين فخذيه ينتفخ بمجرد ما يصبح و”بغلته” وحيدين. إن أشد نساء العالم إغراء لا تقوى على إثارته بنفس قوة بغلته”.
كان الناس يسمعون عن شذوذه واعتدائه على الطفلات الصغيرات حين تسنح له الفرصة في زقاق خال من الناس” لم يترك طفلة دون أن يجلسها فوق عضوه المنتفخ دوما كالبالون”. ليس بوسابة وحده من كان يفعل ذلك الفعل المشين.
كان بوسابة وزوجته يسكنان في فندق البهائم” تقاد البهائم إلى هذه الفنادق، لتغير صفائح أحذيتها المتآكلة من فرط المشي، ولترتاح ريثما ينتهي صاحبها أو صاحبتها من بيع سلعهم الواردة من القرى المجاورة.
وبعد مغادرة البهائم يعود بوسابة للإقامة بفندقه، في غرفة مفتوحة الباب دوما.. شاهدته يوما فوق عشيقته… يمارسان الحب بشكل مكشوف… كانت هذه شريعته وفلسفته… “.
الكتاب: شفشاون ذاكرة المكان
الكاتب: عبد الواحد التهامي العلمي
المركز العربي للدراسات الغربية
الشاون بريس/يتبع…