الشاون بريس
ورد في رسالة مؤرخة بتاريخ 11 صفر الخير 1283 وجهها الوزير أبو عبدالله محمد الطيب بن اليماني بوعشرين إلى أمين الأمناء الحاج محمد بنيس أن السلطان سيدي محمد بن عبدالرحمان العلوي يأمر بمنحة مالية للسيد “عبد القادر الشفشاوني” كي يطلع بدولة مصر على فن صناعة الطباعة وقد أخطر “وكيلَ المغاربة” بأرض الكنانة بمجيئه وكلفه بأمره.
خلال الحملة العسكرية التي قاده (Napoléon Bonaparte 1801/1798 للميلاد) على دولة مصر حمل الإمبراطور الفرنسي معه مطبعة مزودة بالحروف العربية واليونانية فضلا عن اللاتينية لكسب قلوب المصريين وإقناعهم بصدق نواياه التنموية .
بعد جلاء القوات الفرنسية أنشأ محمد علي باشا سنة 1235 مطبعة عصرية “مطبعة بولاق” تضاهي صنواتها الأوروبية في مساهماتها في الحياة الثقافية المصرية من خلال طبع كتب التلاميذ والطلاب.
رحل “عبد القادر الشفشاوني” إلى مصر في عهد اسماعيل باشا حفيد محمد علي باشا ومازالت الذاكرة الجماعية الشفشاونية الشفاهية تذكر الحدث.
كافة القرائن المخطوطة وعموم الشهادات المسموعة وكل الإشارة المسطورة تجمع على أن المدعو في رسالة الوزير بوعشرين “عبد القادر الشفشاوني” هو الفقيه الرحالة عبدالقادر بن عبدالكريم الورديغي الخيراني البريشي المتوفى سنة 1313 بمصر.
برز لقب الورديغي بالحاضرة الراشدية منذ عهد الدولة السعدية وحمله عدد من أعلام المدينة كالقاضي الشاعر عبدالكريم بن عبد الملك الورديغي (صاحب الكناشة المتوفى سنة 1209) والعدل الفقيه عبد الكريم الورديغي الذي تتلمذ على الشيخ عبدالقادر بن عجيبة صحبة شفشاونيين آخرَين السيدين عبد الكريم زيطان وعبد الكريم الناية وكذلك الفقيه الفاضل السيد عبدالسلام الورديغي إمام الزاوية الناصرية الشفشاونية في الستينيات من القرن الميلادي الفائت.
لم يكتف الرحالة الفقيه عبد القادر الورديغي بالمكوث بمصر بل تردد على البلاط العثماني وكانت له حظوة مع أمرائه فرافقه ولدَاه (لعل اسميهما أحمد وعبد السلام) اللذَيْن رويا بعد عودتهما إلى شفشاون مدى انبهارهما من طقوس ضيافة البلاط العثماني وعبّرا عن إعجابهما بجمالية العاصمة اسطنبول وحضارتها.
قبل مغادرته المملكة الشريفة، كان الفقيه الرحالة عبد القادر الورديغي، تلميذ الشيخين عبد السلام بن ريسون ومحمد الحراق، من ندماء البلاط السلطاني المغربي ومن أشهر الطرائف التي خلّدها في التاريخ رده على أحدهم عندما طَلب منه قراءة نص لإحراجه.
رغبة في التهكم على شفشاوني يلثغ كسائر أهالي عاصمة الأمير مولاي علي بن راشد الذين ينطقون حرف الراء “غاء”، تحدى أحد المنتسبين إلى الحاشية السلطانية الفقيه الورديغي وحثه على سرد نص مطلعه “أمر أمير بحفر بئر بطريق مراكش”.
فطن الفقيه الداهية الشفشاوني للمكيدة المهينة فتجنب نطق حرف الراء مستبدلا مضمونه ” أذن حاكم بنقب جب بسكة أبي العباس”.
مناقب الفقيه عبد القادر الورديغي الشفشاوني ومنجزاته لم تنحصر في الطرائف والمستملحات بل شملت التأليف والتدوين فاشتهر عنه إصدار خمس رسائل “سعد الشموس والأقمار في الفقه على المذاهب الأربعة” و”بغية المشتاق لأصول الديانة والمعارف والأذواق” و “نهاية السباق إلى حضرة الملك الخلاق” و “سلوة الإخوان و نصرة الخلان” و “شمس الهداية لتذكار أهل النهاية “.
نقلا عن كتاب “من تاريخ شفشاون” (الجزء الأول) للمؤلف طه بن فاروق الريسوني