عبد الكريم الطبال في حوار مع السفير: الريادة مجرد وهم

للشعراء جيل واحد هو جيل اللحظة
عبد الكريم الطبال: الريادة مجرد وهم

 

الاقتراب من عبد الكريم الطبال معناه الاقتراب من رجل حكيم وزاهد يقيم في كوخ على طرف الغابة. شاعر يلوذ بالطبيعة ويجنح إلى التصوف. تقف نصوصه مثل أشجار متراصة في حقل بعيد، محتفيةً بالجَمال العابر الذي قد لا تنتبه له حواس الآخرين.
لا يمكن الدخول إلى مدينة الشعر المغربي الحديث دون المرور عبر هذه البوابة الكبيرة التي فتحها عبد الكريم الطبال منذ أواسط القرن الماضي، حين اختار الخروج عن القصيدة التقليدية والانتماء إلى روح العصر، عصرِ التحولات الكبيرة في الكتابة العربية. يُحسب له أنه من أهم رواد الشعر الحديث في المغرب رفقة أسماء قليلة، وإن كان هو نفسه يتحفظ على مفهوم الريادة.
يبدو الطبال وهو في الثانية و الثمانين من عمره في غاية الحيوية والهمّة، مثل طفل لم يرد أن يكبر. بدأ مشواره الشعري بديوانه الأول “الطريق إلى الإنسان” ثم أصدر أعمالا عديدة: الأشياء المنكسرة، عابر سبيل، آخر المساء، شجرة البياض، القبض على الماء، بعد الجلبة، لوحات مائية، وغيرها.
يحظى الرجل باحترام ومحبة الجميع، سواء الذين عرفوه عن قرب، أو الذين سمعوا به. شاعر ينأى بنفسه دائما عن كل ما يشغله عن الشعر. الحوار مع عبد الكريم الطبال معناه الحوار مع شاهد على ستة عقود من تاريخ الكتابة في هذه الجهة الغربية من الوطن العربي.

÷ ولدتَ سنة 1931 منذ ذلك التاريخ إلى الآن ما الذي تغير؟ هل تحس بأن الطفل الذي كنته قد كبر بسرعة؟
} منذ تلك الأيام إلى الآن تغير الطفل كثيرا لأن الحياة تغيرت كثيرا، ولكنه لم يكبر فظل الطفل طفلا كما كان. ففي تلك الأيام وهو لا يزال طري العود أبيض الروح كان كما هو الآن كتلة شوق للحياة، كان عميق الحنان إلى الأم/الطبيعة. فالبيت الذي هبط فيه كان قريبا جدا إلى النهر، وكان قريبا جدا إلى قمة الجبل، وبينهما كان يتدحرج طوال السنين الأولى من النهر وما يحوم حوله من طير وشجر، إلى الجبل الذي يهبط منه ويصعد وكأنه على كتفه حينا وفي حضنه حينا آخر، فالمدينة بكاملها في الجبل ومنه وإليه. ولذلك كان النهر صديقه القديم الذي ظل معه رفيقا لا يختلف معه في شيء، ومنذ أن كتب القصيدة الأولى كان هذا الرفيق حاضرا، ولا يزال حاضرا حتى الآن، لم نفترق يوما، ومثله الجبل في العهد والرفقة.
والآن بعد كل تلك السنين وقد تقنع الطفل بأكثر من قناع لا يزال الطفل هو الطفل رغم الأقنعة لا يزال كتلة شوق للحياة، لا يزال ينبوع حنان للطبيعة، لا يزال عشقا صوفيا للجمال، ولا يزال دهشة متجددة. فما رآه في تلك الأيام وهو مندهش يراه الآن بنفس الدهشة أو بأعمق، وما سمعه في تلك الأيام يسمعه الآن وكأنه لم يسمعه من قبل، فيطرب له كما طرب أو اكثر. لا يزال الطفل هو الطفل يؤمن بالحرية التي يؤمن بها الطير، ويؤمن بها الماء، فأنى شاء الطير طار وأنى شاء الماء غنى، وربما انضاف إلى العشق وإلى الدهشة مع الأيام التوالي ما يمكن أن أسميه بالحزن، فالعشق التبس بالأسى والدهشة بالشكوى، والحنين اشتبك بالألم، وكان هذا الحزن بدأ ينغرس في أعماقه منذ الأيام الأولى، ومع الأيام كان يكبر ويعمق وكان مع الأيام يغشى كل إحساس وكل تفكير عند هذا الطفل خاصة الآن.
÷ شفشاون المدينة الزرقاء الجميلة مسقط الرأس والقلب أيضا، تصف نفسك بالغصن في شجرة هذه المدينة أو الحصى في جداولها، أو نسمة الهواء في بساتينها. ما سر هذا الارتباط الذي جعلك مقيما في المدينة الجبلية الصغيرة كل هذه السنين؟
} ليس هناك سر، فالارتباط بالمدينة جد طبيعي، فهي منذ البدء كانت بالنسبة لي الرحم الثاني وأنا ابنها الذي لا ينسى الأم، وكانت قبل ذلك وبعد ذلك القصيدة التي فتحتُ عيني عليها مكتوبة في وجهها فقرأتها ولا أزال أقرأها وهي باستمرار تتجدد وتكتب ذاتها في ذاتها، وكانت كذلك وحتى الآن المرآة التي رأيت فيها الكون مختصرا. فالنهر الصغير خلاصة سائر البحور، والجبال اختصار للجبال المنتشرة في الأصقاع، والأزقة الضيقة امتداد لكل زقاق. وكانت كذلك المدرسة التي تعلمت فيها أبجدية الغناء وأنا أسمع في الشتاءات الأولى موسيقى المطر ومواويل النهر ومعازف الريح. وكانت كذلك ولا تزال المعين الذي شربت فيه أول مرة كأس الحزن وقتما رحل الأب إلى جوفها، ثم سيتوالى الشراب طيلة سنين وسنين. فكيف لي إذن أن أفك الرباط معها وهي وأنا واحد، حتى إذا سافرت مرة فإني أحملها معي في جيب القلب، وهي ربما تفعل فعلي أوأكثر، لهذا كنت كما ذكرت : الغصن في الشجرة والنسمة في البستان والصدى في النهر وما كان لذا وذاك وذلك إلا أن يكون في العمق.
÷ بدأت كتابة الشعر في الخمسينيات، لكنك انتظرت إلى أن بلغت الأربعين عاما كي تصدر عملك الأول “الطريق إلى الإنسان”. هل كنت تقصد أيضا الطريق إلى الشعر؟ حدثنا عن هذه الانطلاقة الشعرية في مغرب السبعينات؟ هل كان الشعر مرحبا به؟ كيف تعامل الوسط الثقافي آنذاك مع ديوانك الأول؟ هل كان الباب مفتوحا لقصائدك؟
} فعلا بدأت في الكتابة وسط الخمسينيات، وكنت وقتذاك لا أزال أتابع الدراسة في التعليم الثانوي، وكنت حينها شغوفا بالشعر العباسي في شخص المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء وآخرين، وفي نفس الوقت كنت عكوفا على قراءة الشعر المهجري ومعه شعر مجلة أبولو التي كان يديرها أحمد زكي أبو شادي، وفيها تعرفت على شعراء أحببتهم وفي مقدمتهم على محمود طه المهندس، وكان لهذين المصدرين تأثير وأي تأثير في محاولاتي الأولى. ثم بعدئذ وأنا في تطوان بعد أن انتقلت إليها أواخر الخمسينيات انكببت على دراسة وقراءة الأدب الأندلسي من خلال كتاب نفح الطيب للمقري، ومن خلال الذخيرة لابن بسام، وفي تطوان كذلك سوف أضيف إلى ذلك الاهتمام العميق بالشعر الأسباني والأندلسي منه بخاصة وهو يقدم مترجما في مجلتين شعريتين بالعربية والأسبانية، وهما مجلة: “المعتمد” ومجلة “ثمودة”، ثم المنشورات التي كان معهد فرانكو للأبحاث يتكفل بنشر روائع من الشعر الأسباني وقتها. وفي المجلتين السابقتين نشرت بعض أشعاري. وسيتعمق هذا الارتباط أكثر بزياراتي إلى الأندلس سنين بعد سنين. وأخيرا الشغف العميق بالشعر الأسباني الذي أقرؤه في الترجمات الحديثة المتوالية، وأحسبني الآن تلميذا وفيا للوركا ولصحابته من الشعراء الأندلسيين مثل خوان رامون خمينث. وخلال هذه السنين لم أفكر في الطبع، فعادة طبع الديوان وقتها كانت غائبة عن الخاطر العام، ولذلك تأخرت كثيرا كما تأخر غيري.
وفي بداية السبعينيات سأصدر ديواني الأول الذي أسميته: “الطريق إلى الإنسان” وكانت كلمة الإنسان تعني عندي وقتذاك قيمة الحرية التي بدونها لا يكون الإنسان إنسانا، وفي المرحلة هذه التي سميت فيها الديوان كانت الحرية وقتها غائبة تماما، لكن الطريق كانت سالكة إليها رغم ما كان من عنف وقهر واستلاب. وقد كان ديواني الأول خلاصة تجربة طويلة امتدت من الخيبات أيام الاحتلال إلى الخيبات أيام الاستقلال، وقد كان تفكيري في الطبع وقتها مغامرة صعبة لولا المساندة التي قدمتها لي مؤسسة ثقافية كنت من بين المشرفين عليها، ثم سيتوالى الطبع لدواوين أخرى، ودائما كان الدعم حاضرا من مؤسسات مغربية. وقد لقي الديوان بعض الترحيب الذي يستحقه، وخلال الفترة صدرت دواوين عدة لشعراء من مختلف المشارب والرؤى رغم أن المرحلة كانت قاسية، ومع ذلك كان الشعر حاضرا بقوة معززا ليس بالملاحق الثقافية وحدها بل وكذلك بالمجلات الرائدة التي صدرت وقتذاك وكلها كانت تقف في صف الشعر.
الرومانسية والتصوف
÷ هذه الطريق لم تكن سهلة على ما يبدو، ففي 1974 أصدرت “الأشياء المنكسرة” وفي 1996 “القبض على الماء”. و بينهما و بعدهما طبعا أعمال شعرية أخرى. هل الإحباط هو قدر الشعراء في عالمنا؟ هل القبض على الجمال و على الأحلام الأولى مستحيل تماما مثل “القبض على الماء”؟
} الطريق إلى الطبع كان شائكا وعويصا، فالذي يريد أن يطبع عليه أن لا يفكر في وزارة الثقافة بتاتا، وبالأحرى في الجمعيات الثقافية كاتحاد كتاب المغرب مثلا، عليه فقط أن يفكر في راتبه الشهري إذا كان موظفا، أو يفكر في نسيان الطبع من أساسه. وشخصيا أمكنني طبع الديوان الثاني بمساندة دار نشر مغربية تكفلت بأمر الطبع والنشر معا. وفي سنة 95 كان الفضل في إصدار ديوان : “القبض على الماء” إلى مؤسسة البوكيلي بمدينة القنيطرة.
وهكذا كان الأمر مع الدواوين الأخرى خاصة في بداية الألفية الجديدة، ومع هذا الانفراج الذي حصل في الثمانينيات ظل المشكل الأساسي الذي كان يواجه الشعر قائما، وأقصد به: مشكل التداول، فقراء الشعر شبه مفقودين بعد أن نستثني الشعراء الذين يقرأون لبعضهم بعضا، وهم بعامة بخلاء دائما ينتظرون الهدايا إلا من رحم قلبه على الشعر والشاعر. ويمكن أن أقول: إن الثمانينيات كانت أرحم وألطف بالشعر والشعراء بالمقارنة مع الفترة السابقة، فقد استطاع عدد من الشعراء القدماء والجدد معا أن يطبعوا دواوينهم كما شاءوا.
÷ منذ قصائدك الأولى إلى أحدث كتاباتك، هناك غيوم رومانسية تغطي هذه القصائد وتبطنها أيضا. هل الرومانسية هي ملاذك في هذا العالم الذي لن تهدأ حروبه و آلامه؟
} منذ القصائد الأولى كتبت من غير أن أحدد موقفي من هذا الاتجاه وذاك، أو على التدقيق من غير أن أكون على وعي بما اندمجت فيه. فالرومانسية كاتجاه شعري هو اتجاه قديم قدم الشعر العربي الذي هو أساسا غنائي، وحينما نقول غنائي نحن نقول في نفس الوقت رومانسي، وأذكر هنا أن أحد النقدة في مصر اقترح استبدال كلمة الرومانسية بالشعر الوجداني، وربما كان هو الناقد المعروف عبد القادر القط في كتاب: “الشعر الوجداني”، لأن المعنى فيهما واحد، وليست تعني الرومانسية عند النقد غير التعبير عن الذات مقابل التعبير عن الموضوع.
وشخصيا كنت منجذبا منذ البدء إلى الحركة الرومانسية التي مثلها اتجاه المهجر خير تمثيل، لتوافقها مع ميولي الذاتية، فبقدر ما هي الرومانسية هروب من جهامة الواقع هي ثورة على الواقع، وخلال السنين التي مرت لم تخفّ حدة الجهامة، فالحروب كما ذكرت تتكاثر والحريات تقمع والحزن يزداد. فالشاعر كأي مبدع آخر يكاد ينفجر بما في وجدانه من حسرة وغضب ومقت لواقع لا يزداد إلا سوادا، وفي نفس الوقت يدعو ويبشر بواقع آخر يقبض فيه على الماء وهو حلم شبه مستحيل ومع ذلك هو جذوة لا تنطفئ. ولربما كان قدر الشعر في كل زمان أن يخوض الحرب برمح ضون كيخوطي مع أعدائه الطواحين ولذلك أتصور أن الشعر عموما رومانسي بهذا القدر أو ذاك فلا شاعر كان أو سيكون قادرا على التجرد مما يمور في الذات.
÷ والتصوف أيضا يعمق هذه المشاعر. هل يرجع ميلك إلى التصوف في ما تكتبه إلى النشأة الدينية وتعليمك الأولي في كتاتيب القرآن؟
} ربما كان الانجذاب أخيرا إلى ضفاف التصوف مرده الأولي إلى الانجذاب للرومانسية التي انسقت إليها مبكرا، كما يرجع هذا الانجذاب إلى ما تلقنته في الكُتاب القرآني، فانطبعت بروحانية لازمتني خفية إلى أن حان الوقت لظهورها في كتاباتي الأخيرة، ثم بعد ذلك في متابعة الدراسة في جامعة القرويين، ثم أخيرا في التقائي بالتصوف لدى أعلامه بدءً من ابن عربي إلى سواه من المتصوفة الشعراء كجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي وسواهم من الأعلام، وكنت أتمنى لو بدأت من هنا وليس من هناك، وفي ظني أن العمر له تأثير ما في الانجذاب إلى الماورائيات بصفة عامة.
القصيدة
÷ تميل في الغالب إلى كتابة القصائد القصيرة، وخلال الفترة الأخيرة صرت تنشر من حين آخر نصوصا صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان واحد “شذرات”. ما الذي يقف وراء جنوحك نحو الاختصار و التكثيف؟
} منذ سنوات انسقت إلى كتابة القصيدة القصيرة، ولم أجد عندي تفسيرا مقنعا لي بما فيه الكفاية لهذا الميل، فالقصيدة الصغيرة تتطلب من الشاعر الغور في اللغة، فلا يطفو وإنما يعمق، وتتطلب أكثر أن لا يترك فيها أثرا بعد الانتهاء منها يشير إلى شغل الشاعر، حتى إنه يمكن أن نتصور أن القصيدة كتبت ذاتها بذاتها، وأنها في أحسن تقويم، وأن كل تعديل فيها مجرد تعسف. ثم تتطلب أكثر ما سميته أنت بالتكثيف، فتكون الكلمة الواحدة فيها كلمات، والصورة فيها صورا، والمعنى فيها معنى المعنى. ولذلك كانت كتابة القصيدة الصغيرة أصعب من كتابة القصيدة الطويلة، وقد تكون أحيانا القصيدة الصغيرة عفوية وبسيطة، وهي مع ذلك صعبة وليست سهلة القطاف، ويمكن حسبان القصيدة الطويلة مجموعة قصائد صغيرة مضمومة إلى بعضها مع خيط رهيف يجمع بينها فكأن كل القصائد قصائد صغيرة بهذا التأويل.
÷ القصيدة لديك بمثابة لوحة ترسمها بعناية، دعني أسميها “القصيدة الصورة” حيث المفردات منتقاة بدقة، والجمل تتعاقب بدون حشو، في ما يشبه المشهد الواحد المنسجم. إلى أي حد تؤمن بضرورة نحت النص؟
} القصيدة بدون الصورة ليست قصيدة، فبالصورة تتكلم القصيدة وبالصورة تتموسق وبالصورة تبدأ وتنتهي وقديما قال الجاحظ مثل هذا الكلام في كتاب: “البيان والتبيين”، وقد قال نزار في زماننا: “الشعر هو الرسم بالكلمات”. فالشاعر رسام بالكلمات والإيقاع يرسم في كل قصيدة لوحة جديدة ليست مسبوقة، أو تقليدا للوحة شاعر آخر. فالبيت كما يقال: لا يبنى داخل البيت، فاللوحة لهذا ليست محاكاة وليست أثرا لحافر أو صدى لصوت. ومن هنا كانت الصعوبة البالغة في الابتعاد عن النثر الذي هو عادة يتقفى الآثار إلا ما ندر، فيلتبس بالشعر ويلتبس الشعر به. ومنذ بداياتي الأولى كنت شاعرا رساما، فالرسم عندي أساسي بدونه لا تتم الكتابة، فالصورة بقدر ما تكون موغلة في الإحساس عميقة في الألوان مرفرفة في الأبعد تكون القصيدة أجمل وأعمق.
÷ لماذا توقفت في سيرتك الذاتية “فراشات هاربة” عند مرحلة الطفولة فقط؟
} كتابي فراشات هاربة توقفت فيه عند مرحلة الطفولة، والآن أحاول أن أكتب ما بعد تلك الرحلة، لكني أتعثر في هذه الخطوة، ولعلني سأتوقف تماما عن المتابعة بعد أن كتبت ما كتبت، فالعودة إلى مرحلة الطفولة ساعدتني فيه الذاكرة كثيرا، فعشتها من جديد وأنا اكتب عنها وكأني لم أغادر المرحلة، وحين أتممتها في كتاب تذكرت زوايا ولطائف كان علي أن أضيفها في الرحلة التي لا تعاد، فالذاكرة مع الماضي البعيد مسعفة بينما هي مع الماضي القريب شحيحة لا تسعف إلا بالنادر مع شيء غير قليل من الخلط واللبس.
ثم إني أعتقد أن السيرة الكاملة للشاعر مكتوبة في قصيدته أو قصائده بدون رتوش وبدون ألوان، فأن أقرأ سيرة المتنبي في شعره أجدى لي في فهمه وفهم حياته من أي سيرة أخرى كتبها هو أو سواه، فالقصيدة ليست خارج الشاعر إنها الشاعر ذاته.
÷ حين زرت الشاعر محمد الميموني في بيته العام الماضي سألته عنك، تحدث بحب كبير وأخبرني أنه لا يمر يوم أو يومان دون أن يسمع صوتك. لا يستطيع دارس للشعر المغربي أن يتحدث عن جيل الرواد في الحداثة دون أن يذكر اسميكما مقرونين. أحب أن أسألك عن هذه العلاقة الكبيرة بينكما، وعن باقي الرفاق في الجيل الذي تنتمي إليه.
} علاقتي بالصديق الشاعر محمد الميموني علاقة محبة وأخوة، فنحن معا من مدينة واحدة هي مدينة شفشاون، ومتانة العلاقة بيني وبينه يرجع الفضل فيها إلى القصيدة وحدها هي التي جمعتنا على قلب واحد، وهي التي كانت ولا تزال سمرنا وهمومنا إذا التقينا، وهي شكوانا ودمعنا إذا افترقنا.
ولي مع الآخرين من جيلي علاقة مودة صادقة لا شائبة فيها وإن عن بعد، لا ألتقي بأحد منهم إلا نادرا، وبالمناسبة فإن فكرة الريادة المنسوبة إلى جيلي هي في رأيي كفكرة الإمارة مجرد وهم، فالشعر منذ أن كان كانَ سيرورة وصيرورة في نفس الوقت، فلا أحد من الشعراء بدأ من الصفر، وقد يكون الرائد إذا كان لا بد من أن نتحدث عن الرائد هو الأول الذي كتب القصيدة الأولى في تاريخ الشعر، وقد لا يكون إنسانا كما تقول الأساطير.
الأجيال
÷ ماذا عن علاقتك بالأجيال الجديدة. أنت تحظى باحترام كبير من طرف الجميع. هل تتواصل مع الشباب؟ هل تحس أيضا أنك تركت أثرا في نصوصهم؟ وبالمقابل هل أحسست أحيانا بالرغبة في مجاراتهم؟
} علاقتي بالأجيال الجديدة لا تختلف عن علاقتي بالأجيال القديمة، أكنّ لكل الأجيال ما أكن من محبة وتقدير، فالأجيال القديمة أسهمت ولا تزال تسهم بقدر وآخر ووفق تصوراتها عن الكتابة ووفق فهمها لملتبسات الحياة ووفق مواقفها من الوقائع والأحداث، والأجيال الجديدة بدورها دخلت إلى الميدان بقدرات إبداعية جديدة ذات تصورات أخرى عن الكتابة قد تختلف كثيرا وقد تختلف قليلا، وهي ذات زخم جديد ينقل الشعر إلى مناخات أخرى جديدة قد تتلامس مع مناخات سابقة وقد لا تتلامس أحيانا.
واللافت للنظر هو أن الأجيال جميعا عندنا متصالحة تضع اليد في اليد، فلا صراع ولا كلام عن قتل الأب إلا ما كان حسبما يشاع من قذائف كارطونية ترسل من المقاهي هنا وهناك، وهي لا تجرح أحدا، وشخصيا أسمع فقط ولا علاقة لي بالشلل لا من قريب ولا من بعيد.
تسألني هل تحس أحيانا بالرغبة في مجاراة الأجيال الجديدة؟ أقول: إني حين أكتب لا أفكر في سني التاريخي، فأنا يمكن أن تعدّني من هذا الجيل، ويمكن أن تعدّني من جيل آخر، وقد أكون أنانيا أو مزايدا إذا قلت :إني من جيلي أنا أو من جيل اللحظة، فالشعر في تصوري ليس له إلا جيل واحد هو جيل اللحظة، وبين الشعراء السابقين من هم من جيل اللحظة وهم كثيرون، فالمتنبي واحد من جيل اللحظة.
÷ هل نفهم من هذا أنك راض على حاضر الشعر المغربي؟ هل أنت مطمئن أيضا على مستقبله؟
} فعلا مطمئن، لأن الشعر الآن في المغرب رغم محدودية القراءة وغياب الدعم يعرف دينامية تبعث على التفاؤل وعلى الأمل، فالشعر حاضر في الصحافة الثقافية خاصة خارج المغرب، وحاضر في الملتقيات التي تسهر عليها الجمعيات الثقافية العديدة، وكذا في الإصدارات المتوالية، ثم في بروز أسماء لها وزنها شعريا خاصة بين الجيل الجديد، وينضاف إلى كل هذا مواقع التواصل التي لها حضور فاعل في المشهد الشعري.

حاوره: عبد الرحيم الخصار

السفير

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً