عن داعش : أصول العنف وسبل الإستئصال

 


عن داعش : أصول العنف وسبل الإستئصال


كتب: عماد أجحا

من أكبر مآسي العرب و المسلمين حَزًّا في الصدر هي أن عصر أنوارهم الذي أثمرت فيه بذور العقل فأعطت وأجزلت في العطاء جاء مبكرا وسابقا لعصر ظلامهم و انحطاطهم الذي لازال امتداده يمضي زاحفا إلى حدود لحظتنا التي نعيشها، ولا زال يتخد في كل مرة تعبيرات تختلف أشكالها ومقاساتها حسب الظروف والعوامل التي تساهم في نحت شكلها و رسم ملامحها . و لعل أبرز هذه التعبيرات تجسدت مؤخراً فيما أصبح يطلق عليه بالإرهاب ، هذا الشكل الجديد للتطرف الديني الذي ربما كانت ميزته الأساسية هي اعتماد فكر ظلامي قرسطوي لوسائل و آليات التكنولوجيا الحديثة ومنجزات التفكير العلمي العقلاني . مع توالي الأيام و بعد أن ألِف الناس أحاديث وأخبار الإرهاب وملوا سماع مستجدات آخر التفجيرات والعمليات الإنتحارية ، جاء تنظيم “داعش” ليعيد للناس دهشتهم و ليزرع بذور الرعب في صدورهم من خلال سلسلة فيديوهات متناسلة ملأت جنبات النت وصفحات التواصل الإجتماعي ؛ تظهر عمليات قطع الرؤوس والإعدامات الجماعية البشعة التي ينفذها شباب يافع غرر به أشر تغرير . ولما كانت الأصوات العالية والصاخبة وحدها التي تستأثر بانتباه واهتمام الناس ، وكانت التعبيرات الحادة الأكثر تطرفا وصدما هي التي توقظ في الناس حس الإستطلاع و تنتشلهم من تربة اللامبالاة – لأنها الأكثر تجاوبا مع أعصابهم المتعبة – فإنه بعد أن بلغ العنف الداعشي مبلغا مُسرفا من الوحشية والدموية ، ووصل حدود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لا يمكن أن يخطر أبداً على بال البشر ، فإن الناس استشعروا لأول مرة بشكل جدي خطورة الوباء الذي ركبهم منذ زمن طويل وتغلغل في أعماق تربتهم الفكرية وشَكَّل أساسات معمارهم الذهني الجمعي ، فآخذ ينموا ويترعرع معهم ، في غفلة منهم ، حتى آنبجس مؤخرا في هيأة كائن دموي اكتمل نضجه وبرزت أنيابه لامعة أمام نيران الحرائق والإنفجارات . إن النموذج الوحيد للسلوك البشري الذي يمكن له أن يخلق كل الذعر والهلع و يذكي نار الفتن الخبيثة هو ذلك السلوك الذي يصدر عن ذات تفكر وتبصر بعقول جيف متحللة ، وتعمل وتبطش بسواعد وعضلات العمالقة . قد يكون هذا هو أبسط توصيف لحالة تنظيم ‘داعش’ ولكل الذين كانوا وراء الحرائق الكبرى في التاريخ التي يكون دائما حطبها شباب نزق لا يعلم. إن أقل ما يمكن أن يقال عن تنظيم إرهابي طائفي كـ’داعش’ هو أنه تجلي سافر لنوازع العدوان والتسلط التي ظلت ثاوية خلف رواق التمدن والإجتماع الإنساني الخفيف . إن هذا التنظيم من حيث مرجعيته الإيديولوجية لا ينطلق من فراغ ، بل إنه ينطلق من كتابات و خلفيات تدفع المؤمنين البسطاء وأصحاب العقول الهشة إلى التسليم بها – بنوع من التصديق الساذج الذي يعطل الوعي و يبطل وظائف العقل النقدية – ثم ترمي بهؤلاء الأشقياء في أتون

العنف وتحملهم على الإنخراط في عمليات جهادية آستشهادية مصيرها الهلاك . إن هذا التنظيم يمتح من ماضي طويل مظلم وحالك السواد ، و يتغذى من رزنامة نصوص لاهوتية صفراء تقدس القبور والأموات وتمجد الأوثان . كتبها وروج لها رجال دين متزمتين يتملقون العامة ويشرعنون الإستبداد ، يصلون لله وفي نفس الوقت تتحطم قامتهم عندما يخرون راكعين تحت أقدام السلاطين و الأقوياء مظهرين الطاعة و التذلل . إن ظاهرة العنف الداعشي ، كغيرها من الظواهر ، ليست صدفة تظهر على حين غرّة، بل إنها مُحَصِّلة سيرورة ومسار ، مسار آبتدأ منذ الزمن الذي حورب فيه المعتزلة من طرف أصحاب المرجعية النصية من غلاة شيوخ الأشعرية ، وعاش إبن رشد فيه محنته وحرقت كتبه كغيره من المفكرين الذين ذاقوا أغلظ أنواع التنكيل من سدنة الهيكل وجلادي محاكم التفتيش . منذ ذلك العهد آنحدر العقل العربي نحو الهاوية من أعلى جرف سامق مع طوائف كالأزارقة والحشاشين (هلكت هذه الجماعة على يد الماغول بقيادة هولاكو في فارس سنة 1256 م . و في الشام أيضاً على يد الظاهر بيبرس سنة 1273م.) و شيوخ كإبن حنبل وابن تيمية وتلميذه النجيب إبن قيم الجوزية، مرورا بأبي العلاء المودودي الذي كان متأثرا به أيما تأثر عراب حركة الإخوان سيد قطب والقرضاوي بوق دولة قطر ، مرورا بشيوخ البيترودولار الذين يعملون تحت الطلب كالعرعور والعريفي والحويني ، مرورا بإبن لادن والظواهري والزرقاوي، و مؤخرا بترددنا أمام استحقاقات الحداثة و هلعنا الهيستيري المرضي من كل ما هو جديد ومن مظاهر الإختلاف والتنوع الثقافي . ولا يجب أن ننسى كم تعرض الحكماء والفلاسفة المسلمون والفلسفة عموما من طعنات غادرة وسهام مسمومة ، كان أبرزها تلك الحملة الشرسة الشهيرة التي شنها الفيلسوف ،المتقلب المزاج ، أبو حامد الغزالي على زملائه في المهنة من خلال كتابيه المعروفين ” تهافت الفلاسفة ” و ” مقاصد الفلاسفة ” حيث أحصى على فلاسفة المشرق – الفارابي و إبن سينا على وجه الخصوص- مجموعة من القضايا خلص بموجبها إلى القول بتكفيرهم وتبديعهم أجمعين مما كان له أثر سلبي على مصير الفلسفة في المشرق التي تم نزع المشروعية عنها بصفة نهائية وتم القول بتحريمها بآعتبارها قولا متهافتا ينطق بالكفر . لكن الغريب هو أن تصدر هذه الحملة التي تناوؤ الفلسفة عن فيلسوف كبير كالغزالي ، و الأغرب هو أن هذا الأخير يعترف في كتابه “المنقذ من الضلال” أن مجمل مواقفه السلبية من الفلسفة كانت “غير خالصة لوجه الله ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه ” . وفي بلاد المغرب الإسلامي أيضا لم تكن أحوال الفلسفة والفلاسفة دائما على ما يرام . فأبو الوليد إبن رشد و إن كان قد آستفاد من حالة الإنفراج التي أحدثتها الإصلاحات الإجتماعية والثقافية التي قام بها مؤسس دولة الموحدين “المهدي إبن تومرت” ووثب إلى أعلى المناصب في زمنه (قاضي قضاة قرطبة و الطبيب الخاص للخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف) وعاش في كنف السلطة ، فإن هذه السلطة ، لما مات السلطان أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي ، سرعان ما قلبت له ظهر المجن فأمر الأمير بحرق كتبه ، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، ثم أمر بنفيه إلى قرية “أليسانة”، التي كان أغلب سكانها من اليهود ، وبعدها إلى مدينة مراكش حيث توفي فيها و آنتهى بشكل دراماتيكي مسار حياة واحد من أعظم رجالات الفكر في التاريخ . هكذا

تهيأ المناخ الثقافي والإجتماعي تدريجيا ليصبح بيئة حاضنة لكل نزعات الغلو والتطرف ورافضة مُحارِبَة لكل قيم الجمال والفنون والإبداع من أجل تكريس هيمنة السلطة على المجتمع وتهيئ الوضع لفرض حكم آستبدادي عضوض . ولعل المنشور السلطاني الذي أصدره السلطان المغربي محمد بن عبد الله ( 1757-1790) الذي ينهى فيه عن قراءة كتب الأدب والفكر والفقه في جامع القرويين وغيره من المساجد التعليمية أفضل دليل على قولنا : “ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلسفة وكتب غلاة الصوفية و كتب القصص ، فل يتعاطى ذلك في داره …و من تعاطى ما ذكرناه في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه ” (عبد الله كنون ، النبوغ المغربي ،ج1 ، بيروت 1961 ، دار الكتاب اللبناني ، ص 276 ) . كل هذا التراكم التاريخي من محاربة القيم الإنسانية العليا تكون ‘داعش’ هي ثمرته المرة ، إن ‘داعش’ هي صورة في ضوء النهار لجسدنا العاري المقروح . ولما كان من الضروري واللازم ، كما هو الأمرعند الأطباء والمعالجين ، تشخيص الداء وأعراضه العامة أولا قبل الشروع في علاجه وآقتراح خطوات منهجية للوصول إلى منابعه الأصلية والقضاء عليه ، فإنه ينبغي علينا أن نتسائل عن هذا العنف الذي نمارسه هل أسبابه وعلله صادرة عن معطيات ومُحَرِّضات ثقافية ودينية وآجتماعية أم أن أسباب هذا العنف مرتبطة بالجانب الأنطولوجي للكائن البشري وبالنزعة التدميرية الكامنة في طبيعة هذا الكائن؟ ؟ لا يكمننا أن نذهب مع الأطروحة التي يروجها أصحاب الإسلاموفوبيا – سواء كان هؤلاء غربيون أو ينتمون لمجتمعات إسلامية ومتذمرون من هذه المجتمعات أشد تذمر- التي تقول بأن الدين الإسلامي هو المحرض رقم واحد على ممارسة العنف والإرهاب ، و ذلك ببساطة لأن كل ما تقوم به هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة من أعمال عنف وذبح وقتل لا يعدو أن يكون مجرد تطبيق ميداني لظاهر بعض الأيات القرآنية التي تدعو إلى قتال الكفار و المشركين مع التمسك بحرفية هذه الآيات . قد يلامس هذا القول جانبا من الصواب ، لكنه مع ذلك يبقى حكما سطحيا نظرا لكونه يغفل المسألة المتعلقة بحقيقة الطبيعة الحيوانية للكائن البشري التي تظل مسؤولة على كل السلوكات العدوانية وعن آندلاع حالات العنف . ثم إن هذه الأيات القرآنية التي تحمل دعوة صريحة إلى مقاتلة المخالفين في الدين والكفار بصفة عامة تظل مرتبطة بواقع تاريخي معين هو الذي أفرزها وموازين قوى محددة هي التي آشترطت نزول تلك الآيات على تلك الشاكلة التي تُلزم و تشرع ممارس القتال ، وذاك ما يسميه الفقهاء ب”أسباب النزول” . و موقف مدرسة التحليل النفسي الفرويدي يدفعنا إلى تجاوز كل فهم و تفسير مبسط لظاهرة العنف لا يأخذ بعين الإعتبار الجانب الطبيعي لهذه الظاهرة ، ويكتفي بالوقوف عند بعض التبريرات الإجتماعية الموضوعاتية البسيطة . ففرويد يتمسك بكون العنف متأصل و بشكل غريزي لاشعوري في الطبيعة الإنسانية ، فهو نابع من غرائز الإنسان التدميرية التي تعجز كل من التشريعات الدينية والقانونية المدنية عن إخضاعها والحد من عنفها . خلف هذا التاريخ الطويل من التحضر والتمدن يطل سلفنا الأول بكل عريه ووحشه ليكشف عن غرائز العدوان والميول الهدامة التي تعشش في صدورنا . ومادامت النفس البشرية مفخخة بالنوايا الشريرة والعدوانية فإننا لن نستطيع أن نقوم بقراءة وفهم سليمين للنص القرآني أو أي نص آخر ، لأن عقل الإنسان القارئ هو العنصر الرئيس الذي يمنح معنى وفهم معين للنص المقروء و يكسب عملية القراءة ككل ماهيتها . معنى هذا

ببساطة هو أن المعركة المطلوبة الآن هي معركة تصحيح العقول و توجيهها نحو ممارسة الفكر النقدي وتبني التفكير العلمي الذي يقطع مع اليقينيات وأوهام امتلاك الحقيقة المطلقة لنقوي بذلك مناعتنا الثقافية من أجل وقاية أنفسنا من إفرازاتنا من التطرف ومن شرور دواخلنا . ويجب على مؤسسات المجتمع المدني أن تتوجه إلى جيل الشباب لتحسيسه بضرورة مسك الكتاب و حمل مشعل فكر التنوير وذلك عبر توفير أمكنة للقراءة وخلق فضاءات للفن والإبداع لأن الفن هو القمين بمحاربة ، أو على الأقل أنسنة ، نوازع العدوان الحيواني الكامنة فينا . و أيضا يجب على المؤسسات الحكومية و المدنية أن يعملا ككل على تقوية النسيج الثقافي الوطني اللاحم لأطراف المجتمع الذي يقيه شر الإنقسام المنبعث من نزوعات عصبية . ما أود هنا بعجالة تأكيده بخصوص حالة العنف والتطرف الديني هو أن المشكلة لا تكمن في الدين أو في فعل التدين ، بل المشكلة تكمن في تدني مستوى الوعي عند الناس الذي يسمح لهم بالقيام بسلوكات دينية مُنَفِّرة لا تعكس البعد الحضاري المطلوب، لذلك لا يترددون في توظيف الدين في مجالات لا صلة لها به ، وأصل البلاء هو أن الإنسان عندما لم يستطع أن يسمق ويعتلي بذهنه المجرد ومجهوده العقلي الخالص إلى مستوى الأديان والمثل العليا قام بإنزالها إلى مستواه الأرضي الدنيئ ومرَّغها في التربة والأوحال التي يمشي ويتحرك فوقها .

 

عماد أجحا ajahaimad@gmail.com

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً