قررت الهروب …!

 قررت الهروب …!

 

 

 

 

في كتابه “فن العيش الحكيم” يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاورز:”لا يكون المرء مطابقا لذاته إلا إذا كان بمفرده، لذلك فالكاره للعزلة كاره للحرية، إذ لا نكون أحرارا إلا في عزلتنا … فقيمة الأنا وجودتها من عدمها تقاس بالنفور من العزلة أو بتحملها …فالبائس يستشعر بؤسه وبكل جوارحه في عزلته التي لا يطيقها جراء ذلك.. إن العزلة هي الميزان الذي تقاس به جودة الأشخاص من عدمها.


الانفراد بالذات أو الالتحام معها، ذاك الشعور الذي لن تعيشه إلا وأنت ترتمي في أحضان نفسك، بعيدا عن ضوضاء الحياة من حولك وعن ضغوطاتها القاتلة، كأن يأخذك كتابا أو فيلما أو يتلاطم الموج أمامك بعشوائية … لتجد نفسك تنزلق بداخل عالم تشيده بيديك.. تؤثثه وتنتقي ألوانه وفق اختياراتك أنت.. حرا.. طليقا.. ضاربا بعرض الحائط كل القيود.. ولم يكن عبثا اختيار الصوفيين وانسياقهم خلف “الخلوة” إذ اتفقوا على أن أمورهم تبنى على أربعة أشياء منها “الاعتزال عن الناس”.


مزاولتنا للحياة داخل مجتمع استهلاكي محض، يؤمن بالماديات كأساس للعيش لا كسبيل لتيسيرها.. يمارس ضغطا كبيرا على دواخلنا فتصير تلك اللحظات الدافئة الروحانية طقسا غريبا وسط هكذا محيط؛ والحياة المثالية هي أن يحظى الشخص بالإطار الخارجي المزركش والمبهر.. والذي يشبه معظم القوالب ربما -إن لم أقل كلها-


حديثي عن التفرد والتفنن في أساليب العيش الحكيمة الرصينة، لا أنفي به ضرورة تواجد المادة التي من شأنها تسهيل أمور شتى، في العزلة حتى، وأكاد أجزم أن الراحة المادية تفتح أمامك عوالم راحة رحبة: كأن تستمع بأكبر عدد من الكتب.. وأن تختار الوجهة الأهدأ لسفرك مثلا.. فالماديات وسيلة لتزيين الحياة لا لعيشها؛ سر السعادة لم يكن أبدا ولن يكن في حضورها فقط…وإنما في التوازن.. في أن يغذي الشخص روحه تماما كما يغذي جسده.. ثم يولي العناية لهما معا بعدل وديمقراطية وحياد تام..


يقول ذات الفيلسوف في ذات المؤَلف: ” إنها متعة لا تضاهيها متعة أن يجمع الشخص بين العزلة الجسدية والعزلة الفكرية المتناغمتين أشد تناغمًا وإن تعذر على هذه الفئة من الناس تحقيق هذا المطلب فإنك تجدهم منزعجين بالغ الانزعاج لأن الظروف القاهرة أجبرتهم على معاشرة أناس متبايني الطباع والميولات والمقاصد”.


وهنا أؤيده للمرة الثانية، علاقتنا مع أناس بطباعهم المختلفة، بميولاتهم، بنظراتهم للأمور، بأفكارهم.. يجعلنا نفقد الجزء الذي يشبهنا نحن، ونباشر البحث عن قالب يشبههم.. بل ونسعى للحياة المثالية “المادية” ما استطعنا إليها سبيلا.. فيحدث أن نحقق المراد لكن بعد أن ضاع العمر ركضا.. فيما يحدث أن ننفلت من بين قبضتنا ونتوه وسط عالم شاسع لا يتفانى إلا في سرقة اللحظات الجميلة والتي تمر أمامنا بسرعة الضوء.


لأعود وأقول أن العزلة بين اللحظة والأخرى، ليست هروبا من الحياة بشكل فعلي، أو هي هروب إن صح القول، هي هروب من الأنا التي يحدث أن يتضخم في غفلة منا.. هروب من النسخ المتكررة التي تعيش بيننا.. هروب من الظلام إلى نور الروح الذي يكبر شيئا فشيئا معنا.. هي هروب.. نعم هروب، هروب النفس من أجل نفسها.. فكل نفس تستحق أن تعيش السلام وكل سلام لا يعاش إلا بالتعود على هذا “الهروب”.

 

مريم كرودي/الشاون بريس

 

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً