قصة قصيرة: الرَّجل القادم من بلاد الدّندون

 

الرَّجل القادم من بلاد الدّندون


نجيب مبارك

قبل وصولنا إلى الجسر، شرعتُ في تجاوز السيارات من جهة اليمين بخفّة ومهارة، على طريقة البيضاويين الشهيرة، غير آبهٍ بالحُفر وبرك المياه ورداءة الرّصيف. كنتُ أقود بعجلةٍ واضحة كي أتفادى سياج الحديد المطلّ على النهر، وفي النهاية استطعت أن أزاحم سيارة بيضاء كانت تسير بحذر إلى جانبي. عثرتُ على فجوة صغيرة، ملتُ نحوها بسرعة، وعُدت إلى إسفلت الطريق. كان موكب السيارات يتقدّم ببطء شديد ويتوقّف. وكنتُ، في انتظار أن يتحرّك من جديد، أنشغلُ عنهُ بتقليب موجات الراديو علّني أعثر على أغنيةٍ ما أو خبرٍ مثير يُبعد عنّي الضجر، لكنّي لم أجد شيئاً يستحقّ الاهتمام. 

كنت قادماً من منطقة بعيدة عن المدينة انتقلتُ للسكن فيها قبل شهر تقريباً. منطقة حديثة العهد بالعمران، محاطة بغابة شاسعة من كل جانب، ويطلق عليها الجميع اسم «بلاد الدندون». كان الطقس في ذلك الصباح من يناير سيِّئاً وعاصفاً، مع ريحٍ قويّة وباردة تهبُّ من المحيط، وتصعد عبر النهر إلى سُفوح التلال القريبة. وكنتُ أتحقّق من السّاعة على لوح القيادة، حين رفعتُ فجأةً عينيّ إلى الشاحنة التي كانت تسير أمامي على مهلٍ، وشدّني منظرٌ غير مألوف. كانت شاحنةً عادية ومتوسّطة الحجم من تلك المخصّصة لنقل البضائع، ومرقّمة في الدار البيضاء. لكن ما أثارني في الواقع ليس ترقيمها، وإنما حمولتها الهائلة قياساً لحجمها، المكوّنةُ- أساساً- من أقفاص حديديةٍ كبيرة، مكشوفة تماماً للعين، وفي داخلها أعدادٌ كثيرة من طيور الدّيك الرومي. نعم، الديك الرومي، أو ما يسمّى في بلدان أخرى الديك التركي أو الهندي أو ديك الحبش (الديك الحبشي)، أو كما يحلو للمغاربة تسميته، باختصارٍ شديد «بيبي»، وهي كلمة بالعامّية، شأنها شأنَ الكثير من الكلمات، لا تعني شيئاً. 

كانت هذه الدّيوك أو «البيبيات»، وربّما كان من بينها دجاجات ( لاحظوا، مقاربة نوع الطيور دائماً حاضرة)، تجلس في أقفاصها الضيّقة بلا حراك، في وضعيات متماثلة تقريباً كأنها نائمة، هادئةً وخانعة لمصائرها المحتومة التي لن تحيد عن مذابح متسلسلةٍ حسب الطلب، في رُكن ما من أركان محلّات بيع الدواجن. لقد كانت بيضاء في الأصل، لكن ريشها صار الآن مغبرّاً ومتّسخاً بشكل مقرف ( ذلك لأن البياض لونٌ محايد، لكنّه لا يبقى محايداً إلى الأبد)، وهذا شيءٌ عادي، بل منطقيّ ومتوقّع جداً. 

كنتُ ما أزال أنظر إلى هذه المخلوقات، حين تحرّكت الشاحنة لأمتارٍ قليلة وتوقَّفت. وكانت الريح في الخارج تُحرّك الريش المتساقط في الأقفاص، فيهبّ نحو زجاج سيارتي مباشرة، ثمّ يتجاوزها ليتطاير في كلّ اتجاه. ماذا يحدث لو انقلع كل هذا الريش من أجسادها جميعاً، دفعة واحدة؟ فكّرتُ في لحظةٍ. أكيدٌ أنها سترتعش من البرد. سترتعش كثيراً من البرد، ولن ترفع صراخها احتجاجاً على الوضع، لأنه بلا جدوى. الصراخ لا ينفع في هذه الحالات. سواء بالريش أو بـ «دولتشي غابانا» أو بدونهما معاً، القفص له اسم واحد على الخارطة: سيبيريا.

لقد بدا لي واضحاً آنذاك أنني- لا محالة- عالقٌ، ولوقت طويل، خلف هذه الأقفاص. حركةُ السير متوقِّفة تماماً فوق الجسر. سيطول الانتظار، قلتُ في نفسي، كما في مرّاتٍ سابقة، قبل أن تأتي شرطة المرور لفسح الطريق وفكّ الزحام الذي تسبّبت فيه- دون شك- حادثة من تلك الحوادث الغبيّة التي تقع في كلّ ساعة. ولكي أتحرّر قليلاً من ورطة التوقّف، إذ لم يكن لديّ خيارٌ سوى انتظار أن يتململ الصفّ، بدأت أمعنُ النظر في الأقفاص واحداً تلو الآخر. وعندها- فقط- اكتشفت أنني أمام صرحٍ من صروح الدنيا. كنتُ أتطلّع وأتطلّع إلى أعلى، ولا أرى نهاية للبرج. برج عالٍ جدّاً لا ينطح السحاب، بل ينطح ما فوقه من سماوات. قفص عملاق في هيئة برج. طوابق تصعد في سماء بلا نهاية. وكلّ طابقٍ يضمُّ عدداً لا يحصى من طيور «بيبي». لا فرق بين طائر وآخر. نسخٌ طبق الأصل تقريباً. أعناقُها تميل من شدّة الريح، وريشُها ينفش بلا توقّف. 

وبينما أنا أنظرُ هكذا اجتاحني- لسببٍ غامض- شعورٌ قويّ بضيق شديد وغضبٍ لا يُوصف (بالمناسبة كان يوم الاثنين). لقد كنتُ أعرف أنّني أكره هذا النوع من الطيور كُرهاً لا حَدّ له. أكرهه هكذا، من عند الله. بلا سبب. ولطالما اقتنعتُ- في قرارة نفسي- أنّه أشدّ أنواع الطيور قُبحاً وبلادة. لكنني- هذه المرة- اكتشفت -ربّما- شيئاً آخر: لقد كرهتُ هذا المخلوق دائماً، ومنذ الأزل، حتى من قبل أن أرى شكله، أو أتذوّق لحمه (لحمُه الذي أكلتُ نتفةً منه ذات يوم، للمرّة الأولى والأخيرة، كان في الواقع أشبهَ بلحم جاموسةٍ قضَت نحبها، بعد أن بلغت من العمر عتيّاً). وقد اشتدّ كُرهي له أكثر حين تبيّن لي أنّ له برجاً يحميه.

أمام هذا البرج السامق، باغتني سؤالٌ: ما نفعُ كلّ هذا؟ قد يصلحُ هذا العلوّ مقرّاً مركزياً لبنك من البنوك أو لشركة من شركات التأمين، فندقاً من خمس نجوم «دو لوكس»، مركزاً للتجارة والتسوّق، أو مجرّد شققٍ فخمة بأثمان خيالية، لكنه بالتأكيد لا ينفع أن يكون قفصاً لطيور «بيبي» على أيّ حال. فهذا الطائر- عادةً- بليدٌ جدّاً وخامل، وظيفته الوحيدة في الوجود هي أن يُغْني من جوع، ويُسمِن. وقد لا يُغني من أيّ جوع، ولا يُسمن إلاّ ذاته. لا همّ له سوى العلف ثمّ العلف ثمّ العلف حتى يتجاوز وزنُه خمسة عشر كيلو. يطير بالكاد لسنتيمترات قليلةٍ، ثم يسقط. هو ليس طائراً، بمعنى ما. ينتفض ويهرولُ مثل أبلهٍ مذعور، ويسهل استفزازه بأقلّ جهد. صوته مزعجٌ للغاية، لا يُشبه حتى صياح الديكة أونقنقة الدّجاج، فمن الأحرى أن يُشبه زقزقة العصافير أو صفير البلابل. إنّه في الواقع خليطٌ من لقلقة اللقالق ونعيب الغربان وزُقاء البوم. نذير شؤمٍ حقيقيّ لدى الكثيرين (أعرف بعضهم). 

كنتُ أفكِّر في هذا الشّؤم تحديداً، حين التصقت ريشةٌ كبيرة بماسح الزجاج الأماميّ، وعلقت لوقتٍ قصير قبل أن تدفعها شدّة الرياح إلى أعلى، ليبتلعها الفضاء الفسيح. في تلك اللّحظة الخاطفة بالذّات، توقّف غضبي. لا أدري كيف! توقّف تماماً كأنه لم يكن. بدأ هديره في رأسي يخفّ تدريجياً حتّى لم يعد يُسمع. كنتُ قد نسيتُ أمر البرج تقريباً. وانتابني- في المقابل- شعورٌ بأسفٍ مباغت، طافح وغير مفهوم. صرت فعلاً آسفاً، لا أدري لماذا. تخيّلتُ أن هذه الريشة سيُقدّر لها عمرٌ أطول من الجسد، الكريه والممقوت الذي سقطت منه. الجسد الذي سينتهي، عاجلاً أم آجلاً، في المطابخ والأفران، فوق زيت المقالي الفائرة، أو بداخل واحدة من تلك الطّناجر المسعورة. فيما الرّيشة اليتيمة، الريشة المسكينة التائهة في السماء، ستظلّ هائمةً تبحث عن مستقَرّ لها في الأرض، ولو إلى حين. 

بقيتُ حوالي نصف ساعة على هذه الحال. أحملق في البرج، وأتابع الرّيش المتطاير بلا توقّف، ومن حينٍ لآخر أشيحُ بنظري إلى أسفل الجسر، حيث مياه النهر العكرة تتماوج بعنف. لم أنتبه في البداية إلى الشاحنة وهي تتحرّك وتبتعد بمسافة عنّي. كنتُ في تلك اللحظة لا أرى شيئاً محدّداً في الواقع. كنت لا أزال أحدّق في أعلى نقطة من السماء. لكن حين دبّت الحركة بشكل متسارعٍ فوق الجسر، وتعالت أصوات المنبّهات من كل حدبٍ وصوب، انتبهتُ فجأةً، واندفعتُ بدوري إلى الأمام. 

حين تركنا الجسر، صار في إمكاننا الرّفع من إيقاع السّير بخفّة أكبر. وكان عليّ أن أتحاشى النّظر طويلاً إلى البرج، حتّى لا أفقد التّركيز على الطريق. كانت الشاحنة تسرع أمامي، فيتمايل البرج قليلاً، لكنه بدا -عموماً- غير متأثّر لشدّة الرياح. بقيتُ أسير في أثره إلى أن وصلنا إلى مفترق الطرق. بعد ذلك، جرت الأمور كما تجري عادةً في كلّ صباح. انحرفتُ يميناً إلى شارعٍ جانبيّ، وأكملتُ طريقي في هدوءٍ إلى وسط المدينة، فيما ظلّت الشاحنة تسيرُ حثيثاً على الطريق السريع. وبعد ثوانٍ قليلة، نظرتُ في إحدى المرايا العاكسة: كان البرج قد اختفى تماماً وراء التلّ.

وصلتُ إلى مقرّ الشركة التي أعمل فيها، متأخراً بأكثر من ساعة. كان المطر يهطل خفيفاً وسريعاً في تلك اللحظة. ركنت سيارتي في مرآب الشركة. وفيما أنا أهمّ بالترجّل عنها، سمعت صوتاً غريباً ينبعث من مكان ما قريب. التفتّ بسرعة فإذا بي أمام مشهد عجيب: صفّ من طيور «بيبي» يسير إلى الأمام، بانضباط شبه عسكري، نحو بوابة الشركة. كان يتقدَّم الصف ديك أسود كبير يطلق ما يشبه صيحة آمرة، فتستجيب لها باقي الديوك البيضاء بصيحات مماثلة. 

عادة ما أقوم بإبراز بطاقتي الممغنطة لتسجيل الدخول، لكني هذه المرة لم أكن في حاجة إلى ذلك، فالبوابة كانت مشرعة، ولا أثر لحرّاس الأمن. كان صف الديوك يخترق باحة الشركة، ويتّجه بشكل آلي نحو السلالم التي تفضي إلى الطابق المخصَّص لمكاتب الإدارة. تبعت الصف وأنا أتلفّت بحثاً عن أثر لباقي العاملين، الذين غالباً ما يدبّون كالنحل في مثل تلك الساعة، لكني لم أر أحداً. اخترقت الممرّ إلى آخره حتى وصلت إلى مكتبي. دخلت المكتب، وأحكمت إغلاق الباب. جلست بهدوء خلف شاشة الحاسوب الكبيرة، ثم أخرجت من الدولاب علبة مناديل ورقية جديدة. وفيما صار المطر ينقر بشدّة على زجاج النافذة، انهمكت بجدية بالغة في تجفيف الريش الأبيض الناصع، الريش المبلّل بمياه المطر، الذي كان يكسو جسدي بالكامل.

 

مجلة الدوحة

 

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً