من أعلام المقاومة الوطنية المسلحة للاستعمار الإسباني بشفشاون
من المعلوم أن اتفاقية الحماية الموقعة بين سلطان المغرب المولى عبد الحفيظ وفرنسا سنة 1912 وإسبانيا على أَثَرِهَا لاحقا في مراكش سنة 1913([1])، عملت على تقسيم المغرب إلى منطقة سلطانية تلتهم معظم التراب الوطني المغربي وتشرف عليه فرنسا إدارة واستغلالاً ونفوذاً، وللسلطان فيها حضور تشريفي لا يسمن ولا يغني من جوع، ومنطقة خليفية وعاصمتها تطوان بالشمال الأقصى للمغرب وتوابعه من الساقية الحمراء ووادي الذهب وسيدي إفني جنوباً، ويمثل فيه السلطانَ في رمزيته خليفةٌ له. ولم يستسلم المغاربة لهذه الاتفاقية المجحفة في حق المغاربة والمغرب الذي كان يعاني ضعفاً على مختلف الأصعدة مقابل القوة الغاشمة التي كان يتمتع بها غريماه، إلى مساندة الدول الغربية القوية لهما من منطلق الدعم المتبادل بينها في استعمار الدول الضعيفة في أسيا وإفريقيا. فكانت هناك مقاومة شرسة ضد الاستعمارين، خسرا فيها الكثير.
ولم يستطع الاستعمار الإسباني أن يدخل شفشاون بشمال المغرب إلا في أكتوبر من سنة 1920، ولم يلبث أن خرج منها مذموما مدحوراً في سنة 1924، تحت ضغط المقاومة المسلحة بزعامة مَحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي أجمعت عليه معظم القبائل الجبلية في تقدمه من منطقة الريف، لتصبح المدينة ـ وكما كانت منذ تأسيسها ـ قلعة للجهاد، في تصدرها لمقاومة القوات الاستعمارية التي اندحرت إلى مشارف تطوان، وملاحقتها مخذولةً في تقهقرها، على ما سَيَّجَتْ به هذه القواتُ نفسها بما كانت تتوفر عليه من عتادٍ حربيٍّ متقدمٍ متنوعٍ في هتكه وفتكه، إلى ما كانت تبذله من مال لشراء الهمم الوضيعة وتجنيد مرتزقة من الأهالي، بل وممن كانوا يفدون من منطقة الحماية الفرنسية وما كان أكثرهم!.
وقد ظلت المقاومة الوطنية على أشدها انطلاقاً من منطقة شفشاون، ليتم احتواؤها في ماي سنة 1926 تاريخ دخول الاستعمار الإسباني بصفة نهائية إلى المدينة، وهنا كان النداء لتسليم السلاح والاستسلام للسلطة الاستعمارية المتمكنة، لتبقى مجموعاتٌ من المقاومين الصامدين الذي لم يضعوا السلاح بنقط معينة من منطقة شفشاون وغمارة، والتي ظل أفرادها مطلوبين للسلطات الاستعمارية تحت طائلة إغراء مَنْ يساعد على القبض عليهم بالمال. ومن هذه المجموعات الممتنعة عن الاستسلام وتسليم سلاحها مجموعة مُترجَمنا الذي سيكون دليلَنا المادي على ما كان من مجموعته، من خلال ما رواه لنا ولده الفاضل السيد عبد السلام([2]) في حوار كان لنا معه في موضوعه بتاريخ سابق.
هو السيد الهاشمي بن محمد بن أحمد عزاير الخمسي. ولد سنة 1880م بمدشر “غاروزيم” جوار شفشاون، من أمه السيدة رحمة برهون، يرجع أصله إلى مدشر “أكرَّاط” من قبيلة “الأخماس”؛ حيث استقرار عائلته، وحيث كان انتقال جده إلى “غاروزيم”، مشارطاً على تعليم الصبيان وتحفيظهم القرآن بجامع “أخابع”؛ حيث بنى له الأهالي داراً بالجوار ليستقر بأهله متزوجاً منهم.
وكبر صاحبنا؛ ليشتغل بالفلاحة كغيره من سكان المدشر. ولما اشتد عوده، ولمس من نفسه استعداداً للجهاد في سبيل وطنه الذي كان المحتل الإسباني قد تقدم في التهام جزء مهم من شماله، بمقتضى معاهدة الحماية التي أمضاها مع سلطان المغرب عبد الحفيظ (1908 ـ 1912) بمراكش سنة 1913م، على غرار ما تم مع الاستعمار الفرنسي بفاس في ذات السنة في ظل رفض شعبي لهذه المعاهدة.
كان المحتل الإسباني قد وصل إلى شفشاون ودخلها في احتلاله الأول لها في اكتوبر سنة 1920م، في ظل مقاومة شرسة من سكان منطقة شفشاون، ولم يستطع التقدم شرقاً بفعل هذه المقاومة التي اتخذت شكل حرب العصابات. وهنا كان حضور صاحبنا في أسماء تَرَاوَحَ انتماؤها إلى مدشر “أكرَّاط” من أبناء عمومته، ومن مدشر “تارية” من رَبْع “بني جبارة” الواقع على العدوة الغربية لوادي شفشاون، غير بعيد من مدشر “غاروزيم”, وهذه الأسماء في مجملها هي: عبد الله بن محمد عزاير د”انشكير” رئيس المجموعة، الهاشمي بن محمد عزاير، العياشي بن محمد عزاير ابن عم الأول، محمد بن الحسين عزاير، عبد السلام بن محمد بن الحاج المهدي ريان، أحمد بلحاج المهدي ريان، عبد الله بن محمد ريان، محمد بن أحمد بن عبد السلام ريان.
وعندما وصل مَحمد بن عبد الكريم بحملته الجهادية إلى منطقة شفشاون؛ تحالف معه هؤلاء، فيما انضم إليه من أبناء المنطقة، وحاربوا تحت لوائه، مُرْغِمينَ المُحتلَّ الإسبانيَّ على الخروج من المدينة مدحوراً لدى سنة 1924م، مُقاومين تَعَنُّتَهُ وعجرفتَهُ وسطوتَهُ بكل أنواع الأسلحة الفتاكة التي استخدمها في محاربته التي انتهت بأسر الأمير ابن عبد الكريم في ماي سنة 1926، إلا أن العصابة التي كان ينتمي إليها صاحبنا لم تستسلم باستسلامه، وظلت شاهرةً السلاح في وجه المحتل الإسباني وقد بسط نفوذه على شفشاون وما حولها، إلا من نقط مقاومة شرقها عند حدود قبيلة “غمارة” و”الأخماس” و”بني أحمد” لم تضع الحرب أوزارها عندها حتى يوليوز من سنة 1927م([3]).
ولم يترك هؤلاء المقاومون منطقة شفشاون في صمودهم، بل اتخذوا من غابة “بني جبارة” المجاورة مخبأ لهم، وقد باتوا مطلوبين، خاصة وقد فاتتهم فرصةُ العفو المعروض عليهم من طرف الاستعمار الإسباني المتحكم بإلقاء سلاحهم. فأحيط بهم، وشُددت الرقابة عليهم، ورُصدت لمن أدلى بمعلومات عنهم مُحَفِّزاتٌ مالية. وكانوا إذا اشتد بهم الجوع خرجوا ليلا من مخبئهم لتدبير أمرهم لدى بعض أهلهم بالجوار، ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم إلى الغابة لمعاودة الاختباء، وقد ظلوا على حالهم هذا مدة ستة أشهر. وفي ليلة خرجوا بأسلحتهم إلى “غاروزيم” طلباً للمؤونة بـ”دار برهون” المعروفة مكاناً. وهي دار أخوال صاحبنا، فَتَرَصَّدَهُمْ مَنْ وَشِىَ بهم، فنزلت قوةٌ مخزنية لتطويقهم، فاستسلموا، واعْتُقِلوا، وسيقوا مُكبَّلين إلى “قصبة شفشاون ” حيث سُجنوا.
كان باشا المدينة هو القائد علي زيطان([4])، مُولّىً من طرف المراقب الإسباني العام الذي كان يمثل السلطة الاستعمارية حاكماً فعلياً. وقد قضى المتمردون على سلطة الحماية هؤلاء في أسرهم أُسبوعاً، أُخِذوا بأمر القائد علي زيطان بعده ـ ما عدا السيد الهاشمي عزاير الذي بُعث مكانه لِلتَّعْمِيَةِ رجلٌ مغمورٌ يُدْعَى التشينو ـ إلى مكان بـ”غاروزيم” يُسمَّى: “الغويبة”؛ حيث نُفد فيهم جميعا حكم الإعدام.
وكان وراء هدا الاستثناء تدخلُ أحد كبار المدينة ووجهائها يُدعى الحاج محمد يخلف المعروف بـ”حجيلة”، برشوة أداها في السبيل، بمبلغ مئة وأربعين ريالا حسنياً. وكان دافعه إلى هدا الفعل علاقةُ جوار حميم كان يجمع بين أسرته وأسرة المُتدخَّل له بأرض بـ”أكرينسف” ناحية شفشاون.
وبعد التحفظ عليه بسجن القصبة؛ اُسْتُقْدِمَ للمحاكمة أمام المراقب العام العسكري بتطوان، في جملة من كان معهم ممن سبقت كلمة القائد زيطان المتعجلة فيهم بقتلهم، فكان أن حوكم في النازلة وحده. ولما اسْتُفْسِرَ عن سبب عدم وَضْعِهِ السلاح، وتَسليمِهِ وِفْقَ الأوامر الصادرة في الموضوع بعد استتباب الأمر للإسبان بالمنطقة؛ أجاب: بأن ذلك كان مواصلة منا للجهاد؛ لأننا لا نريدكم في بلادنا، وتحدياً للقائد علي زيطان الذي وَكَّلْتُمُوهُ للإيقاع بنا. فاقترح عليه المراقب قِيَادَةً بـ”قبيلة الأخماس”، إلا أنه لأميته التي وصلت به حَدَّ عدم تمكنه من كتابة اسمه عَدَلَ عن ذلك، لِيُعَيِّنَهُ شيخاً على “مشيخة غاروزيم” التي كانت تجمع إلى جانب المدشر مداشر: [“العشايش”، و”دارأقوباع”، و”أمهارشن”، و”توراغين”، و”أميكري”] من قبيلة “الأخماس” بقيادة “باب تازة”([5]). فقبل، ليصبح من يومه شيخاً على “غاروزيم”، مُستقوياً على جماعته بنفوذ أصهاره المالي والسلطوي؛ بحكم انتمائهم القبلي الخُمسي الضارب من أيام السيبة([6])، وتوسعهم في ملكية الأراضي بشفشاون و”أمهارشن” غربها بنحو خمس كلمترات. حيث انتماؤهم. وظل كذلك إلى سنة 1958م: سِنِّ تقاعده، على استهدافه من طرف “جيش التحرير”، فيمن استُهدفوا بعد استقلال المغرب مباشرة؛ بدعوى خدمتهم أعواناً للاستعمار: فلقد قصدوا بيته بـ”غاروزيم”ـ وكان مسافراً بـ”باب تازة”ـ، ولما لم يجدوه؛ مكثوا مُنْتَظِرِينَه . وبوصوله إلى شفشاون ونزوله من الحافلة، وجد بعض أهل مدشره في انتظاره، مخبراً إياه بواقع الحال. غير أنه تحدى الوضع، واستعد للقاء منتظريه ـ الذين لم يكونوا أبداً محل ترحاب من أمثاله في حلهم وترحالهم ـ؛ بشرائه ما يُمْتِعُ مقامهم من سجائر وكيف وطابا، وإرساله مع بعض مستقبليه إليهم، في حين لحق هو بهم بأغراض غير ذلك. ولما وصل إليهم، وجدهم توجهوا إلى أهل المدشر، وتحدثوا معهم في شأنه فشكروه لهم، وبناءً عليه، ومما توصلوا به منه من نُزُلٍ وكريم ضيافة،؛ فقد استقبلوه بالأحضان، مُزكِّين مَشيختَه التي ظلت له حتى عَجْزِه عن القيام بأعبائها متقاعداً عنها سنة 1958م، وكانت وفاته بشفشاون بداره بها في غشت سنة 1970م، عن عمر ناهز التسعين سنة مما كان يردده نفسه. ودفن رحمه الله بمقبرة سيدي أحمد الوافي شرق شفشاون.
[1] ـ تم الإعداد لهذه الاتفاقية في نوفمبر 1912 مع السلطان عبد الحفيظ، ووقعت رسميا في مراكش في ماي 1913. انظر كتاب: [“الاستعمار الإسباني في المغرب (1860 ـ 1956)” تأليف: ميكيل مارتن، ترجمة: عبد العزيز الوديي. الطبعة العربية الأولى: 1988 / منشورات التل ـ الرباط. الفصل الثاني من الكتاب:” الاحتلال”. ص: 39].
[2] ـ السيد عبد السلام بن الهاشمي عزاير من مواليد سنة 1940 بشفشاون مما أفادنا به نفسه في حوارنا الذي كان لنا معه مشكوراً في أكتوبر سنة 2009م، عرفناه موظفاً بباشوية شفشاون قبل تقاعده زاد الله في عمره؛ والشكر موصول لأخيه الفاضل السيد عبد الله المزداد بإفادته سنة 1947 الذي راجعناه في جوانب من هذا الحوار بتاريخ لاحق تزكية له وتدعيماً.
[3] ـ المصدر السابق. ص: 85 ـ 86.
[4] ـ علي زيطان: (تـ 1972) برواية بعض أهله لنا، عينه الإسبان باشا على شفشاون لمدة يسيرة غطت مرحلة انتقالية لدى خروج المقاومة منها سنة 1926 واستتباب الأمر له مدبراً المرحلة التي لم تتعد سنته.
[5] ـ قيادة باب تازة: قيادة الأخماس العليا. ومركزها “باب تازة” الواقعة غلى بعد عشرين كلم من شفشاون، على الطريق الوطنية الرابطة بين شفشاون والحسيمة.
[6] ـالمقصود بأيام السيبة أيام الفوضى التي عاشتها منطقة شفشاون وأثرت على حضورها الاجتماعي والاقتصادي والأمني في غياب سلطة المخزن الرادعة مما ظل سائداً بحدة طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر مستمرا حتى دخول الإسبان المدينة بمقتضى عقد الحماية مقاتلين سنة 1920.
بقلم: محمد ابن يعقوب