مظاهر من الحياة الاجتماعية ببلاد غمارة من خلال “الألفية السنية” (3)

كانت دعوة الشيخ الهبطي منظمة وممنهجة، إذ كان واعيا بضرورة إيصال صوته للجميع واستغلال كل الظروف والفرص التي تتاح له من أجل إنجاح عمله.

فقد ذكر معاصروه أنه كان يجول بنفسه بين القبائل ويقيم بالقرى لفترات مختلفة حسب ما تتطلبه الوضعية، فكان يتصل بأعيان كل قبيلة يفد عليها ويجتمع بهم وبالسكان ويستفسرهم عن دينهم وحياتهم ويرشدهم وينصحهم ولا يغادر القرية أو القبيلة إلا بعد أن يأخذ العهد من الأعيان على اتباع الطريق الصحيح، والالتزام بتعاليم الدين القويمة وتجنب الربا وشرب الخمر، ولا يكتفي في ذلك بالعهد الشفوي بل كان يكتب وثيقة التزام في نسختين يأخذ واحدة ويترك الأخرى لدى الأعيان.

كما كان يغتنم فرص تجمع سكان القرية أو القبيلة في مناسبة معينة كالأعراس والمواسم ليدعوهم إلى دعوته ويرشدهم ويعظهم ويبين لهم الطريق الصحيح الواجب اتباعه. بالإضافة إلى هذا كان يبعث بالرسائل إلى مختلف
المناطق والأطراف مستنهضا الهمم، حاثا على جهاد المحتلين، داعيا إلى التشبث بالدين والعمل بما يأمر به الله ورسوله. وكانت تلك الرسائل توجه على الخصوص إلى الفقهاء والأعيان والطلبة نظرا لمركزهم الاعتباري داخل المجتمع مما يسمح لهم بالتأثير فيه.

لم تقتصر دعوة الشيخ الهبطي على فئة دون أخرى أو على طبقة دون غيرها بل وجه انتقاده إلى حيث وجد الفساد والانحراف في المدن والقرى، بين الأمراء والسلاطين، بين الفقهاء والقضاة، ومدعي التصوف والطلبة والنساء والرجال من العوام، ولم يكن نقده عاديا أو هداما بل كان يصور كل أنواع الانحرافات والمفاسد ويعطي بدائل لها انطلاقا من مرجعيته الدينية التي هي الإسلام الحنيف.

وبسبب صرامته وشجاعته في إبداء مواقفه تجاه مختلف فئات المجتمع عانى من مجموعة من المصاعب والعراقيل، وعرض نفسه لعدة مخاطر كان مصدرها كل من وصله نقده خاصة الحكام والأمراء الذين لم يكونوا ليرضوا على ما يواجهون به من حقائق، وساندهم في ذلك حتى بعض الفقهاء والقضاة وغيرهم. في هذا الصدد يقول في إحدى منظوماته المعنونة بن “قولي عند الناس مهان”:

قـولي عنـد النـاس مـهـان * قـول الـذليل الحقيـر

مالـي فـي هـذا الزمـان * غيـــــراإلــه نصــــير
قلبـي انطفـى وانصــدع * مـن هـم هـذه الـبـدع

مـا فيهـا اليــوم نــــزاع * قـد غمــرت الـوطن

زاغ الكبيـــــــر والصـغير

مالي فـي هـذا الزمـان * غيـر الإلـه نصــير

أصحاب العلـم سـكوت * ملتـــــــــــزمين البيــوت

مـن قــال الحـق يمــوت

وفي نفس الإطار جاء في منظومة “المعرب الفصيح عن سيرة الشيخ الرضي النصيح” لابنه محمد الصغير الهبطي ما يلي:

كـم ســامت بالضــرب والتهـــاون * والـي وقـاضـي الجـور بـشـفـشــاون

سجنه القاضـي عـدو نفسـه * مـن غيـر جـرم موجـب لحبسـه

وعلى الرغم من كل ما تعرض له الهبطي من مضايقات واضطهاد سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي أحيانا، فإنه تابع دعوته وعمله بصمود وصبر وتجلد وإيمان كبير، إذ تميزت دعوته بالنفس الطويل ومواجهة التحديات وتخطي كل العراقيل إلى أن تمكن من محاربة عدد من البدع والانحرافات، وبالفعل لم تعد عادة الوشم موجودة بالجبال الغمارية بنفس الحدة وأصبحت الأعراس إلى وقت قريب ولازالت حاليا – باستثناء بعضها – تقام دون اختلاط الرجال بالنساء، ولم يعد شرب الخمر وعصرها مسألة تمارس علانية، وهذه كانت بعض الأهداف التي كافح وجاهد من أجلها، مما يعني أن دعوته – إلى جانب دعوات أخرى – كانت تلقى صداها في المجتمع وأن نصائحه تم العمل بها.

وكما سبق وذكرنا فقد كانت دعوة الشيخ الهبطي منظمة وممنهجة، إذ لم يكتف بالتجول بين القرى والمداشر بل أسس مركزا علميا مهما بجبل الأشهب عرف بمعهد (المواهب) وذلك في النصف الأول من القرن العاشر الهجري حيث استقر به، وكان هو نفسه إحدى أطر هذا المعهد الذي قام بدور إشعاعي كبير على المستوى التعليمي والإصلاحي، إذ تخرج منه أعلام مشهورون في التاريخ المغربي كالقاضي أحمد بن عرضون والقاضي محمد بن عسكر صاحب الدوحة وأبي محمد عبد الله بن حسون والعلامة المفتي أبي عمران موسى الوزاني، وهؤلاء تتلمذوا في معهد المواهب على يد فطاحلة العلم والمعرفة الذين كانوا يدرسون في هذا المعهد كالشيخ الهبطي نفسه وابنيه محمد الصغير ومحمد الكبير والشيخ أبو القاسم بن خجو والشيخ أبو عمران موسى بن علي الوزاني الذي درس هو نفسه في هذا المعهد.

وكانت بمعهد المواهب مستويات متعددة، كما كان له جناح خاص بالنساء تشرف عليه وتدرس به زوجة الهبطي آمنة بنت الفقيه بن خجو.

أما المواد التي كانت تدرس بهذا المعهد فقد كانت متنوعة تجمع بين العلوم الدينية والدنيوية كالشعر والعروض والنحو والمنطق والحساب وعلـم الكلام والتفسير بالمذهبين الظاهر والباطن وعلم المعاملات وفنون التصوف.

لقد توافد على معهد المواهب شيوخ وطلبة ومريدون وعلماء من مختلف مناطق المغرب وهذا يعني أن نشاطه كان مكثفا وإشعاعه كان قويا، فقد كانت المواد المدرسة لا تختلف عن المواد التي كانت تدرس بالقرويين والشام ومصر والحجاز والعراق، كما كانت للشيخ الهبطي مراسلات عديدة مع مختلف المراكز الثقافية كفاس ومراكش ومعاهد غمارة وغيرها .

كان الشيخ مؤمنا بضرورة نشر العلم والمعرفة بين مختلف أفراد المجتمع لتكوين مجتمع متعلم بعيد عن الانحرافات والبدع والخرافات والشعوذة.

وكانت بهذا المعهد مكتبة مهمة عرفت “بمكتبة الهبطيين” جمع فيها الشيخ الهبطي أمهات الكتب في مختلف العلوم، وفتحها في وجه الجميع حيث استفاد منها النساء والرجال، إذ كان الشيخ وزوجته العالمة يشجعان على إعارة الكتب وقراءتها والاطلاع عليها.

وعلى الرغم من شلله في آخر عمره إلا أنه ظل يمارس نشاطه العلمي والتعليمي والتربوي بالمعهد المذكور إلى أن وافته المنية سنة 963هـ 1555م، وسنه يزيد عن 80 سنة حيث دفن بزاويته بالمواهب وقبرہ مشہور جدا، لا يزال
يزوره الناس من مختلف المناطق ويعرف بقبر “سيدي عبد الله العالم”.

لقد أعجب كل الذين عاصروا الشيخ الهبطي بثقافته وعلمه وطباعه، إذ كان الجميع يقدره ويحترمه سواء طلبته أو أساتذته أو أصدقاؤه، وعبروا عن ذلك في مختلف المناسبات وبأشكال عديدة حيث يورد صاحب الدوحة عدة شهادات في حق هذا الداعية تدل كلها على قوة شخصيته العلمية والدينية والإصلاحية.

فقد وصفه ابن عسكر في الدوحة “بفريد زمانه وأعجوبة دهره وجنيدي زمانه لا يجارى في ميدان المعرفة بالله تعالى ولا يطار تحت جناحه”.

أما الشيخ أبو العباس العبادي الأكبر فقال فيه: “إن سيدي أبا محمد عبد الله الهبطي جنيدي هذا الزمان”، وكتب عنه الشيخ أبو الحسن الأغزاوي المعروف بالحاج ما يلي:

“قال أبو زيد عبد الرحمان بن شريح إن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة عند رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، الحديث، ولا يبعد أن يكون منهم الشيخ سيدي أبو محمد عبد الله الهبطي رضي الله عنه”.

وبالنسبة للشيخ أبو القاسم بن علي بن خجو المذكور سابقا فكان يقول “هو غزالي هذا الزمان ولقد من الله علينا وعلى المسلمين به” هكذا كان الشيخ أبو محمد عبد الله الهبطي يشكل قطبا من أقطاب الإصلاح الديني في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي وذلك بفضل ثقافته ومعرفته وسلوكه وتأثيره على المجتمع، ليتوفى بعد ذلك ويبقى اسمه مرتبطا – في التاريخ – بميدان الدعوة الإسلامية والإصلاح الديني والاجتماعي.

عنوان الكتاب: مظاهر من الحياة الاجتماعية ببلاد غمارة من خلال “الألفية السنية لأبي محمد عبد الله الهبطي

المؤلف: محمد ياسين الهبطي

الشاون بريس

يتبع…

مشاركة المقالة على :
اترك تعليقاً