“و ارتفع السكر” …قصة قصيرة
*كتبها: أشرف ريان
عادت بي للماضي … أجل إنها الذاكرة، للوراء لأيام الفصل الدراسي بالرابع الابتدائي. المكان شفشاون، و الزمان أواخر فصل الربيع من العام الذي بلغ فيه المنتخب المغربي نهائي كأس إفريقيا ، وبين المكان و الزمان تفاصيل شتى منها : مدرسة حملت اسم مؤسس المدينة الزرقاء مولاي علي بن راشد بموقعها الذي يتوسط قلب المدينة بين شقيها القديم و الحديث، وقاعة الفصل ممتلئة عن أخرها حوالي 30 تلميذ و تلميذة، و الجو حار داخل الفصل أضف على ذلك يوم الخميس الذي يعد يوم السوق الأسبوعي بالمدينة، و المدرسة المحاذية للسوق _الدمومين أنذاك_ و أصوات الباعة القادمة منه ، و نوافذ الفصل تطل مباشرة على قيسرية بئر أنزار . و لا ننسى أصوات ” السريفي” و “الخمسي” و “العروسي” القادمة من محل لبيع أشرطة الطقطوقة الجبلية بالقيسرية المذكورة… كلها عوامل اجتمعت في مساء الخميس في حصة مع معلمة العربية ، وفي الحصة كما هو معهود ليست الدراسة مقتصرة على اللغة العربية بل كل ما هو مكتوب بالعربية من قبيل الإجتماعيات و التربية الإسلامية و العلوم التي أضافوا عليها النشاط ، فأصبحت النشاط العلمي. المهم الحدث الرئيسي كان هو المعلمة الذي ارتفع لها معدل السكر في الدم، لأنها رأت الجو غير ملائم تماما للدراسة، بين ثرثرة التلاميذ و صيحات الباعة و أصداء أغنية جبلية لازلتُ متذكرا لمقطعها تقول : وراني مريض و مدكدك و دوني معكم نزور ، إلا كان السحور جيبوا لبخور … وعلى حين غفلة نطقت المعلمة بابتسامة عريضة : من أراد أن يخرج من الحصة فليخرج ، التلاميذ و من بينهم أنا تفاجئنا بهذا الخبر ، خبر سار و غريب و ربما هو خدعة ملغومة قد تنفجر بمن ساوره الخروج من الحصة. ساد الصمت في أرجاء الفصل و النظرات متبادلة و العيون مترقبة لمن ستخول له نفسه بنطق كلمة (أنا) … أعادت المعلمة بنفس اللهجة و الملامح الموحية بجديتها هذا الخبر على مسامعنا .
بعد ثواني قليلة ارتفع صوت تلميذ من المقاعد الخلفية بنبرة توحي بالسرور : أنا يا معلمتي لكن إذا خرجت من الفصل و التقيت بأحد داخل المدرسة بماذا سأجيب إن سألني إلي أين ذاهب و الجرس لم يرن بعد ؟ ردت عليه المعلمة لا تخف قل له إني انصرفت بإذن من المعلمة… على الطاولة التي يجلس عليها صاحب كلمة (أنا) وبجواره تلميذ همس له : هل أنت متأكد من هذه الحماقة التي ستقدم عليها ؟ رد عليه بنبرة الواثق : هي طلبت من يريد الخروج و أنا مللت و أود الخروج. كتاب لمادة الاجتماعيات ، و دفتر من حجم 50 ورقة و قلمين الأول أزرق و الثاني أخضر ملفوف بشريط لاصق “السكوتش”، كلها أغراض التلميذ جمعها في محفظة تحمل ملصق “النمر المقنع” و ضعها على ظهره واتجه صوب الباب، حاله كمن ذاق طعم السجن لسنوات و ها هي لحظة السراح قد حانت متجها بخطوات ليعانق الحرية المفقودة . عدنا للدرس رغم الأصوات التي لازالت قادمة من الخارج ، و بعد وهلة قليلة إذا بباب القسم يفتح على مصراعيه و إذا بالتلميذ يتقدم و عيناه مصوبتان بعتبة الباب و وجه الذي اكتسى لون أحمر داكن، و من وراءه ظهر المدير الذي اعتدناه بحلته الأنيقة ، لكن أناقة ذاك المساء اختلطت بنظرات حادة في دلالة على غضب عارم. _ المدير وبنبرة صارمة صاح مخاطبا المعلمة : هل صحيح ما قاله التلميذ ؟؟! _ المعلمة : ما الذي قاله التلميذ يا سعادة المدير ؟ _ المدير : قال بأنك طلبت من التلاميذ الانصراف بدون أي عذر. _ المعلمة : ما هذا الافتراء يا سعادة المدير ! أيعقل أن أقدم على أمر كهذا دون حاجة و ضرورة ملحة ؟ يا سعادة المدير هو من طلب أن يخرج إلى المرحاض و أدنت له . لكن لا أدري كيف أخرج معه المحفظة ؟ و في نبرة صارخة متبوعة بصفعة مدوية في وجه التلميذ صاح المدير : يا هذا هل تتغابي علي أم تستحمر معلمتك ؟ إلى مقعدك يا … … . بخطوات سريعة و عيون غارقة في الدموع اتجه التلميذ نحو مقعده جلس بعد أن غادر المدير القسم.
صرخت الأستاذة في وجهه : ليكن هذا درس لك و لغيرك أيها المشاغب، فعلا سقط ضحية لارتفاع السكر في دم المعلمة التي أردت التخلص من التلاميذ ليبقى أقل عدد بالقسم .
تأملت في التلميذ و عيونه مركزة على الملصق المطبوع في المحفظة. ربما تمنى في تلك اللحظة أن يتحول لشخصية ذلك البطل المقنع و ينقض على المدير و المعلمة ليرد لهما بدل الصفعة و الشتائم لكمات قاضية عساه يشفي حسرته في موقف لا يحسد عليه.